فخري كريم
(3)
احتدم السجال العبثي بين "العراقية" و"دولة القانون" حول الالتزامات المتبادلة التي تم التوصل إليها في إطار مبادرة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني،
لينتهي عشية استحقاق المئة يوم الحكومي، بقرار قيادة الكتلة العراقية بالامتناع عن حضور اجتماعات مجلس الوزراء.وفي جو الصراع اللا مسؤول هذا، وقبل أيام من انتهاء المهلة الحكومية لتنفيذ المطالب الشعبية، الملحة منها على وجه الخصوص،
يبدو أن الطرفين الحكوميين المتشاركين في المسؤولية يتعمدان في دفع الأمور ووجهة التنافس الى "مساحة خربة" خارج دائرة المسؤولية التضامنية عن التقصير في الأداء الحكومي لتنفيذ برنامج الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي كان موضوع الحركة الاحتجاجية الجماهيرية وشعار التظاهرات التي عمت سائر المحافظات في أنحاء البلاد.
والسجالات الدائرة كما هو جلي ، لا تدور حول ما تحقق من منجزات او ما تعثر او تعرض للإخفاق، وحول تحديد المسؤول عن ذلك والنتائج المترتبة عليه، والتدابير العاجلة التي ينبغي اتخاذها بروح المسؤولية "التوافقية" التي من شأنها التخفيف من الأعباء وانعكاساتها السلبية على كاهل الشرائح الاجتماعية الأكثر عوزاً وإملاقا، في اقل تقدير، وأي ضمانات يمكن لحكومة الشراكة الوطنية الملتبسة أن تقدمها للملتاعين من المحتجين ، يفتح أمامهم باب الأمل والفرج للخروج من حمّى الأزمة المعاشية والأمنية والسياسية التي تضّيق الخناق عليهم وتبدد آمالهم وثقتهم بالعهد الديمقراطي في العراق الجديد المبتلى بحكم الطوائف وذوي العاهات السياسية المستدامة . فالسجال بين الطرفين يدور بعيداً عن كل ذلك ، ولا يمس حتى تخومها ، ومضامينها لا تخرج عن دائرة الشكوى و" التظلم " من قضم الحصص والمناصب السيادية التي تعرّض لها طرفٌ لصالح الطرف المهيمن الآخر . والاستخفاف بالرأي " الانتخابي العام " بلغ حد تجاهل ربط الصراع ، ولو من باب التكتيك الساذج ، بدور التنافر بين المتنافسين على السلطة ومغانمها ، في تعطيل إنجاز الأهداف المشروعة للمواطنين واجتراح السبل الكفيلة بتفكيك عناصر الأزمة المتفاقمة التي تشدد الخناق على البلاد .
ليس بمستبعدٍ أن تتصاعد الملاسنة بين دولة القانون والعراقية ويشتد الخلاف بينهما مع اقتراب نفاد مهلة المئة يوم المشؤومة على الحكومة ، بهدف توتير الأجواء السياسية لتحميل المطالب الشعبية والمطالبين بها ، وما ينوونه من تحرك لكشف المستور عن الإخلال بوعد الاستجابة لها ، مسؤولية إثارة الصراع والتنافس وتشديدهما ، "والمستفيد" من إجهاض الجهد الحكومي لتنفيذ البرامج الإصلاحية - المطلبية !
وكان واضحاً منذ البداية ،أن رئيس الحكومة لم يكن واثقاً من إمكانية تنفيذ وعده في المئة يوم التي أعلن الالتزام بها ، لان "مشروعه الإعلاني "كان يستهدف تطييب الخواطر وتخفيف الاحتقان من جانب ، وكسب الوقت لإعادة ترتيب أوراقه وتحالفاته الحكومية من جانب آخر ، ريثما يتمكن من التفرغ للاستحقاقات الأخرى . ورئيس الحكومة المعني الأول بالنجاح والإخفاق الذي قد يصيب الحكومة ومشاريعها ، أدرك دون اعتبارٍ بمسؤوليته هذه ، أن شركاءه المعارضين هم الذين يتولون الوزارات الخدمية وأجهزة أخرى معنية بشكاوى ومطالب الناس ، وان الفشل في تنفيذ الوعد الحكومي سيصيب كتلهم قبل أن يلحق الضرر به ودولة القانون ، منقاداً من هذا الافتراض إلى خطأ مركب آخر يوحي بإمكانية توظيف الفشل لعزل المعارضين ، وحسم الصراع معهم ، حتى وان اقتضى الأمر إعادة تشكيل الحكومة ، بإعفاء البعض من الشركاء "الوزراء" بذريعة عدم الكفاءة والأهلية، او السعي لطرح، حكومة الأكثرية السياسية، وهو البديل المتعذر لنفس الأسباب التي تقف وراء الأزمة وتُفاقُمِها.
وفي الطرف المقابل ، انطلقت العراقية والمعارضون المستترون داخل تحالف المالكي ، من الافتراض غير المبالي بهموم الناس الذي يرى أن المئة يوم المحكوم عليها بالفشل المسبق ، هي الفرصة المواتية لإضعاف حكومة المالكي وعزلها، تمهيداً لإسقاطها او إعادة الاصطفاف في داخلها لجهة تحقيق المزيد من المطالب الفئوية الضيقة ، دون اعتبارٍ لدستوريتها او مخالفتها الصريحة للدستور، مستعدة في لحظة التقاء المصالح ، الضرب عرض الحائط بالدستور والقسم بـ"القرآن " بالحفاظ عليه والحنث بهذا القسم وتجاوز المصلحة الوطنية العليا ، ما دام التواطؤ مع الطرف الآخر يحقق مغنماً لركن قياديٍ في كتلة علاوي ، كما جرى في انتخاب نواب للرئيس في " السلة الفاسدة " الواحدة ، وتجاهل " انتحال صفة نائب رئيس " من قبل مرشح الكتلة العراقية .
ولا يخفى بالنظر إلى مضامين هذا الصراع الذي لم يتوقف بين الأطراف الحكومية وقطبيها ، أن الانشغال بالهم والهواجس والمعاناة الشعبية ، كان آخر أولويات دولة القانون والعراقية وقيادتيهما في الحكومة ومكونات العملية السياسية المنساقة وراءهما . ويتضح من سياق الأحداث وتطوراتها وجوهر الصراع الدائر أن السيد المالكي رئيس الوزراء ، خلافاً للوعود التي قطعها لمن اعتمد على دعمهم لاستعادة موقعه على رأس الحكومة ، ظل شديد التمسك بسلطته والصلاحيات التي يسعى للتوسع فيها قدر استطاعته ، دون اعتبارٍ لمفهوم ومتطلبات الشراكة في الحكم حتى مع أقرانه في التحالف الوطني وهو ما يُظهِر بين فترة وأخرى استعداده وإن " كمناورة وتكتكة سياسية بهدف الضغط " للبحث عن بدائل مريحة واستعداده بتجاوز اطر التحالف القائم واعتماد ثوابت جديدة تمكنه من بسط سيطرته على مقاليد الحكم ، وهو ما كان مصدر شكوى وهواجس لدى الأطراف الأخرى جميعها تقريباً ، وكان السبب في تعثر تشكيل الحكومة لبضعة أشهر وتعثر استكمالها حتى الان بشغور الوزارات الأمنية .
وإذا كان المالكي مصدر شكوى ضمني بدعوى الانفراد ، فان علاوي من جانبه اختزل الشراكة والعملية السياسية برمتها الى مجرد سعيٍ لفرض صيغته المخالفة للدستور شكلاً ومحتوىً ، لمجلس السياسات الإستراتيجية التي باتت عقدة العقد المستعصية ، ومحك المصداقية والالتزام بمبادرة الأستاذ مسعود بارزاني التي عرفت بـ" اتفاق أربيل " . فالسيد علاوي ومن بقي معه فعلاً، يرى أن من حقه أن يترأس المجلس ، وهو - كما بات معروفاً - مكوّنٌ مؤقت لُفِّقَ لإرضائه شخصياً ، لهذه الدورة التشريعية ، ولتأمين دورٍ سياسي له يتماشى مع المحاصصة الطائفية التي لا تجيز له تبوؤ مراكز أخرى بُنيت وفقها لممثلي الطوائف والمكونات على أساس الاستحقاق الانتخابي .
وقد أُقر في اجتماع القادة في إطار مبادرة بارزاني مجلس السياسات الإستراتيجية ، على أن يتولى قيادته الدكتور إياد علاوي ، لكن توصيف هذه القيادة وصلاحياتها بالصيغة التي طرحتها العراقية لم يجرِ الاتفاق عليها من قبل المجتمعين ، سواءً لجهة انتخابه من قبل البرلمان ، او تسميته رئيساً " فوق الرئاسات " او بصلاحيات تتجاوز السياقات الدستورية ، وهو ما تتواصل المطالبة بإقحامه في اتفاق أربيل والادعاء بأنه اتفاق ابرم وملزم التنفيذ .
إن هذه الإشكالية تُظهر ثانيةً مدى التشوه الذي تعاني منه العملية السياسية ، والانحراف الذي تكرسه القيادات العراقية بسلوكها المتعالي ونزعتها السلطوية غير السوّية ، وتجاوزها للأصول والأعراف والمبادئ الديمقراطية التي تتبارى فيما بينها في ادعاء تمَثُلها لها وتمسكها بها وبثوابتها ، وهي بهذا تبرهن عبر مواقفها اليومية عن التعارض والتناقض مع كل ما يرتبط بقيم الحياة الديمقراطية وشرعتها ، بدءاً بخرق الدستور وانتهاك حرماته ، وانتهاءً بالتجاوز على استحقاق المواطنين والدَوسِ على كراماتهم ومطالباتهم الحياتية المشروعة وجعلها موضوع مساومات من أجل مكاسبهم الضيقة وغنائمهم الحرام . ويبدو الآن أكثر من طرف غير متردد في الإعلان عن رغبته بإجراء انتخابات مبكرة، تطرح كحل للأزمة السياسية غير القابلة للتحرك والزحزحة، أو تعبيرا عن محاولة لتغيير النسب في البرلمان وبما يسمح بتشكيل حكومة على أسس أخرى غير الأسس الاضطرارية التي أقيمت عليها الحكومة الحالية..لكن كل هذه الاحتمالات تترك خلف ظهرها ما مفاده أن النقد الشعبي الآن موجه إلى الجميع، وان طرفا ما لا يستطع أن يعفي نفسه من النقمة الشعبية، كما أننا نفتقد إلى مؤشرات مضبوطة لاتجاهات الرأي العام.. وقبل كل هذا فإن البلد يحتاج قبل الانتخابات المبكرة أو الانتخابات الاعتيادية بموعدها المحدد إلى تغييرات مطلوبة على قانون الانتخابات كما تحتاج إلى تشريع قانون الأحزاب.. وبالتأكيد ستكون الانتخابات حلا، ولكن ليس بالطريقة التي ينادي بها دعاة الانتخابات المبكرة الآن والذين لا تتجاوز دعوتهم حدود محاولات تبرئة النفس والظهور بمظهر الواثق من تصرفه السياسي خلال هذه الأزمة.
ويكفي التوقف عند مظهرٍ مخلٍ جرى تكريسه والتمسك به دون تزحزح من احد ، منذ أول تشكيلة حكومية بعد سقوط النظام الدكتاتوري في (٩ نيسان ٢٠٠٣) وهو يتمثل في إصرار معظم " قادة " الكتل ، حتى وان جاء بعضهم بالصدفة الى العملية السياسية في إطار الاصطفاف والمحاصصة الطائفية على ، رفض تبوؤ مركزٍ حكومي "أدنى" من السابق، ولا التنازل تحت أي ظرف او ضرورة وطنية تعكس خدمة " للوطن المقهور" و " الشعب المُذَّلِ والمُهان " الذي قد يحتاج الى خبرتهم ومهاراتهم التي لم يتسن للناس اكتشافها . فالسيد علاوي وقبله أقرانه الذين سبقوه في المسؤولية ، ولا استبعد السيد المالكي والآتين بعده ، يمكن أن يتنازلوا عن ألقابهم المعظّمَة ، والقبول بمناصب " دونيّة " تجردهم منها ، وسيستفيق الشعب العراقي يوماً ، ليتطلع من بعيد ، على أكثر من نادٍ للزعامات وفقاً للتراتبية السيادية والألقاب ،.. نادي الرؤساء أصحاب الفخامة والدولة ، ونادي أصحاب المعالي ومنتدى أصحاب السعادة من نواب الشعب .
إن ما يثير القلق ونحن نقترب من نفاد المئة يوم ، يوم قيامة الحكومة ، وقد تعمَّقَ تصدَّعَ الائتلاف الحكومي او تأزّمَ الصراع بين أركانه ، استغلال الأجهزة الحكومية الأمنية المتنفذة والواسعة الصلاحية للحالة المتصدعة المأزومة في الحياة السياسية وبين الأطراف الحكومية ، لاتخاذ إجراءات ترويعية ضد المواطنين .
إن مظاهر عديدة تشي بمثل هذا السلوك المنافي للدستور ، والذي تبين من خلالها ، تفرد بعض التشكيلات العسكرية والاستخبارية في ملاحقة المواطنين واستهدافهم ، بعيداً عن بؤر الإرهاب والتكفير ، وان هذه التشكيلات تتمتع بحماية خاصة ، وصلاحيات تسمح لها بالمبادرة لاتخاذ أي إجراء خلافاً للقانون وحقوق الإنسان التي تتشدق الأوساط الحكومية بالتمسك بها واحترامها . وقد شهدت مهلة المئة يوم والأساليب التي استخدمت في مواجهة المحتجين من الموالين " للنظام الديمقراطي " ، إن الأدوات القمعية التي أعيد بناؤها ، لا تتورع عن ممارسات لا يجمعها جامع مع قيم العراق الجديد ومنظوره الإنساني ومبادئه الدستورية الديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان ، وان المعنيين بهذه الممارسات والمعبرين الإعلاميين عنها لا يتورعون عن فبركة التهم الجاهزة لتبرير الاعتقالات الكيفية والملاحقات التعسفية ، كما حصل مع الشباب الأربعة الذين اُختُطفوا غدراً ظهر الجمعة من ساحة التحرير وسيقوا في سيارة إسعاف إلى موقع عسكري امني مجهول ، ثم أعلنت ضدهم ، ثلاث تهمٍ بالتتابع أمام الكاميرات : تهمة شتم المسؤولين ، والتحريض على العنف ، وأخيرا تهمة حمل هويات أحوال مدنية مزورة .!
كل هذا والسيد رئيس الوزراء بمنأى عن هذا الانتهاك الخطير لحقوق الإنسان وكفالة الدستور بحمايتها ، كما يرد على التساؤلات بشأن هذه المظاهر والخروقات الفظة ، وهو ما يثير قلقاً مضاعفاً حول احتمالات وجود ايادٍ خفية لا ضابط لها ، إن صحت مثل هذه التحركات الأمنية دون علم رئيس الوزراء ومكتب القائد العام للقوات المسلحة ، والأجهزة العسكرية والأمنية المرتبطة به دون غيره من المسؤولين في ظل غياب الوزراء الأمنيين. وفي مثل هذه الحالة بالتحديد يتوجب على الكتل البرلمانية طرح هذه الظاهرة على بساط البحث واتخاذ الإجراءات الملموسة لمعالجتها دون تأجيل . كما أن من المهام الملحة لمنظمات المجتمع المدني ولجان حقوق الإنسان ، العمل بالوسائل الديمقراطية للضغط بهذا الاتجاه والمطالبة بالكشف عن الأجهزة والأفراد المسؤولين عن هذه الظاهرة الخطيرة المنافية للنظام الديمقراطي .
أما مجلس السياسات ، فهو عقدة قابلة للتسوية والحل ، لكن المشكلة الأخرى التي ستواجه اجتماعات القادة وربما ستعرض الاتفاق إلى الانتكاس ، هي بأي لقب يُخاطَبُ رئيس مجلس الاستراتيجيات :
دولة الرئيس .. باعتباره رئيس وزراء سابق ..
أم فخامة الرئيس .. أم يُخترع له لقبٌ جديدٌ مادام مرشحه الآن مصرا على أن يكون رئيس الرؤساء!!
واحتدام الصراع حول هذه الإشكالية قد يدفع باتجاه إلغاء ألقاب الفخامة والدولة والمعالي والسعادة ...!
ولحين حسم"إشكالية" الألقاب تبقى أوجاع المواطن مغيبة وأنينه غير مسموع.