فخري كريم
(4)
تحاول القيادات السياسية الحاكمة أن تدور حول نفسها وتميّع المضامين الجوهرية للأزمة التي تعصف بالوضع السياسي الراهن،
كما لو أنها لا تعرف الحقائق التي تشكل مصدر قلق المواطنين وتنمي في أوساطهم اليأس من احتمال معالجة جذرية لأسبابها، ممّا يسد باب الأمل في وجوههم.
فالمئة يوم الأولى تشرف على نهايتها والأوضاع الحياتية والمعيشية للعراقيين تزداد سوءاً وتدهوراً، فلا الكهرباء ولا الخدمات بكل تفاصيلها ولا البطاقة التموينية أو الإعانات التقاعدية لكبار السن والأرامل وعوائل الشهداء وجدت لها حلولاً، أو وضعت لها مسارات تُمَكّن من معالجتها في الأمد المنظور. وتتصاعد معدلات التضخم وغلاء الأسعار والمعيشة لتفتك بالأمن الاجتماعي لشرائح تزداد إملاقاً وعوزاً، وتتوسع أفقياً لتضم وافدين جدداً ممن همَّشتهم البطالة والنكبات الاجتماعية والهجرات القسرية التي لم تتراجع بالوتائر المطلوبة نتيجة استمرار تدهور الأوضاع الأمنية وفقدان أسباب العيش.
وفي حين يتطلع هؤلاء المواطنون إلى مؤشراتٍ عملية من الحكومة لمعالجة سلة المشاكل التي يواجهونها، أو على الأقل البدء بتفكيكها، فان آمالهم تتراجع مع ما يتابعونه من توترٍ وتشابك بالألسن بين قيادات الكتل البرلمانية حول استحقاقات كل طرف من المناصب والصلاحيات وما يرافق هذا التراشق الكلامي من تهديدات بنسف التوافق الحكومي والدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، وغير ذلك من الدعوات والحلول التي لا يجمعها جامع مع ما تشكو وتعاني منه الأوساط الشعبية المشغولة بأسباب معاشها وامن أبنائها.
إن الأمل بالانفراج القريب يتلاشى مع قرب "قيامة الحكومة" بانتهاء وعد المئة يوم في السابع من الشهر الجاري، وعدم ظهور ما يبدد الشكوك بالمساعي الحكومية وجديتها بتنفيذ التزاماتها. بل أن ما يجري في الواقع العملي يعكس لا مبالاة بهذه الالتزامات ونكوص عنها وتوجه نحو إنتاج المزيد من الأزمات السياسية ووضعها في مواجهة الحركة الجماهيرية وترويعها بالنتائج التي يمكن أن تتولد عنها وتفاقم من أوضاعها المتدهورة أصلاً. وهذا ما يرسمه مشهد الصراع حول الحصص والمناصب بين العراقية ودولة القانون وقطبيهما المتنافسين، المالكي وعلاوي. لقد كان من المتوقع أن تبادر الأطراف المتصارعة، إلى عقد اجتماع عاجل حول طاولة مستديرة للبحث في وضع خارطة طريق من شأنها تنفيذ الالتزامات الحكومية في وعد المئة يوم، والشروع بتنفيذ ما يستوجبه ذلك بتضافر جهودها معاً، وتجميد خلافاتها الثانوية مؤقتاً، وهي محصورة في تفاصيل المجلس الوطني للسياسات الإستراتيجية، رغم الرتوش التي يراد من إيرادها، إضفاء طابع مصيري على السجال بين الطرفين، وإزاحة الالتباس الذي يعلق بأذهان المتابعين حول مضمونها الفئوي "الشخصي" الذي لن يؤثر تجميده أو تأجيله ولو بأي قدر كان على المسار الوطني، ولا يمهد الأخذ بشروط تحقيقه لوضع نهاية للازمات والإشكالات البنيوية، التي يُخشى من تسبُبِها بالمزيد من تفاقم الأزمة وارتباك الحياة السياسية.
لقد اتضح من إصرار الحكومة على استمرار تعاملها الفظ، غير الدستوري مع متظاهري ساحة التحرير، بالشكل الذي جرى التعبير عنه في اعتقال الشبان الأربعة من نشطائها، ودخول عنصر غير شرعي في الاعتقالات والمضايقات للمتظاهرين، سواء عبر استخدام سيارات الإسعاف أو كمائن "السيارات الأمنية المضللة" في الأزقة والشوارع الفرعية التي تقود إلى ساحة التحرير، وأخيراً عبر ما قيل انه قرارٌ لرئيس الوزراء بمنع التظاهرات في الساحة، لقد ظهر من ذلك كله أن الحكومة عازمة على مواجهة المطالب السلمية المشروعة بتدابير وحلول أمنية، وهو ما يؤكد عجزها وقصورها عن إدارة الدولة وفقاً للاعتبارات التي يفرضها الدستور والالتزامات التي توجبها السياقات الديمقراطية المنصوصة فيه. وهذه الاعتبارات والالتزامات تتطلب من الحكومة، على العكس مما تقوم به، وضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها الوطنية والانخراط في برنامجٍ وطني تطرحه بالاستناد إلى المطالب والأولويات الملحة، وتحديد الخطوات الملموسة لتنفيذها، ونشرها في جميع وسائل الإعلام والدعوة إلى المساهمة في تدقيقها وإغنائها والمشاركة في تفعيلها. ويتطلب إضفاء المصداقية على هذه الخطوات الحكومية، وضع الحقيقة بالأرقام والمؤشرات عن الإمكانية الفعلية لتطبيق التوجهات المرسومة، وما يمكن أن يعيق أو يسهل تنفيذ التزاماتها. إن هذا التوجه الوطني يمكن أن يكتسب الجدية والفعالية والشفافية المطلوبة عبر مساهمة جميع القوى والأطراف السياسية والمدنية، سواء، أكانوا المشاركين في التشكيلة الحكومية أم الأحزاب والقوى التي حُرمت من المشاركة، بسبب القانون الانتخابي الغادر والاصطفافات الطائفية والفئوية الضيقة، بالإضافة لمشاركة نشيطة من قوى المجتمع المدني والنقابات والاتحادات والتجمعات الديمقراطية الأخرى.
أما ما يبدو سلوكاً مقرراً من أوساط حكومية في اعتماد المواجهة الأمنية للحركة الاحتجاجية السلمية ونزوعها إلى الانفراد في اتخاذ القرار وفقاً لهذا التوجه المخل، فانه محكومٌ بالفشل الأكيد. فالاعتبارات الأمنية والعسكرية كما تؤكد الحياة والتاريخ البعيد والقريب تعكس وهماً يغدر بصاحبه، ولا يديم حكماً أو حاكماً.
ولنا في تجارب البلدان العربية، ومصائرها برهان على حكمة الشعوب وإرادتها المقررة.