فخري كريم
(7)
لابد من الإقرار بجرأة أن طابع الأزمة الراهنة موضوعي، يتجاوز العوامل التي هي نتاجٌ لها، سواء برزت بصيغة قوى أو ظواهر أو تداعياتٍ.
وبالتالي ليس صحيحاً أن تُختَزَل في أي مرحلة من تجليها وتطورها إلى جملة العناصر والمظاهر الناجمة عنها، ولا يجوز توظيفها سياسياً لإدانة طرف حاكم او جهة مغلوبة على أمرها بسبب الإصطفافات المخلة او أي سبب آخر، إلا بقدر ما يتسبب أي منهما في تغذية الأزمة
وإدامتها ورفضه الخروج من دائرتها لاعتبارٍ ذاتي.
موضوعية الأزمة يمكن ردها إلى جملة الأسباب والعوامل التي بدأت بأسلوب إسقاط النظام السابق وأداة تغييره والوجهة التفصيلية التي اعتمدها الاحتلال في إعادة بناء الدولة وصيغة المحاصصة الطائفية التي أصبحت الإطار السياسي لنظام الحكم وكل ما ارتبط به من سياسات ونهج ومفاهيم للتوافق والمصالحة والديمقراطية وموقع المواطنة في تركيباتها. ومن هذا يتضح أن جهة ما في المنظومة السياسية ليست مسؤولة وحدها عن التأسيس للأزمة او تعميقها وتواصلها، بل المنظومة المختلة والقوى المستفيدة من توظيفها لغاياتها وأهدافها. ويمكن الانطلاق من هذا الفهم لطابع الأزمة وعناصرها المكونة، بالأخذ بالاعتبار أن جميع قوى العملية السياسية معنية بالمشاركة في إنهائها وتصفية جذورها ومظاهرها، واستنهاض طاقات البلد في ترميم الخراب الذي حل فيه والمضي في استكمال بنائه، بالاستناد إلى "عقدٍ سياسيٍ واجتماعي" خارج الصيغة القائمة.
ولا يفترض في هذا العقد إبعاد طرفٍ أو مكونٍ أو كتلةٍ، بل على العكس تماماً، يتطلب إنجاح المرحلة الانتقالية احتواء كل عناصرها وضمان مشاركتها الفعالة، في إطار مبادئ وقيم ومفاهيم وتوجهات العقد السياسي الاجتماعي واشتراطاته الانتقالية.
ولكي لا تبدو المرحلة الانتقالية انقلاباً على الوضع الحالي، من حيث الاعتبارات المتأتية من تركيب المجتمع العراقي ونزعاته الوطنية وهواجس مكوناته، فان الافتراضات المعاكسة لها لن تحتل مكاناً لها في هذه المرحلة. إن الخروج من الدائرة المغلقة للوضع الراهن متعذر، مهما جرى التمويه عليه بإجراءات وتدابير لا تمس جوهره، أو تعالج مسبباته البنيوية ، فمثل هذه الحلول والمعالجات سرعان ما تتمخض عن مزيدٍ من عوامل تشديد الأزمة والدفع بها إلى متاهات تأزيم العلاقات بين القوى السياسية وانزلاقها إلى المواجهة والبحث عن حلول خارج السياقات الديمقراطية. وحتى إذا استبعدنا ذلك مما يشكل خطراً على الخيار الديمقراطي ومقوماته، فان الأوضاع ستظل في حالة مأزومة، والصراع في إطارها سيشجع على عرقلة أي تسوية من شأنها توطيد النظام الديمقراطي واستكمال بنائه، وهو ما سيزيد من معاناة الناس ويعيق تلبية تطلعاتهم .
لقد أسفرت وعود الحكومة عن "تصفير" المهلة وتدويرها إلى مئوية ثانية، دون أن تعترف بالفشل في تنفيذ ما وعدت به من برنامجها للإصلاح الاقتصادي، سوى تقديم وعدٍ بالاستفادة من التجربة المئوية الأولى لوضع التصورات البرنامجية على أساسها، وتجديد التزامها بمعالجة القضايا العقدية المرتبطة بالخدمات والبطالة والاستقرار وتطبيع الدورة الاقتصادية بتنشيطها، ووضع آلياتٍ فعالة لمكافحة الفساد الإداري والمالي ونهب المال العام وتبديد الثروات وهدرها وإزالة أسباب التضخم وغيرها مما يشكل أساس التذمر الشعبي والاحتجاجات الجماهيرية الغاضبة، بالإضافة إلى ترشيق الحكومة والوظائف العامة التي ترهق ميزانية الدولة وإعادة النظر في رواتب الرئاسات والوزراء والنواب والدرجات الخاصة، حيث جميعها أدت إلى توسع الهوة والفوارق بين المواطنين، وبالتالي فهي وسعت دائرة النقمة على الوضع والقائمين عليه.
وما لم تنته الحكومة (ونكرر أن المقصود بتعبير الحكومة هنا هو جميع السلطات المشكلة لهيئة السلطة في الدولة، وليست السلطة التنفيذية حصرا) إلى الإقرار، ولو مع نفسها، بان ما تفعله إنما سيكون تكراراً غير مفيد لما حاولته منذ تشكيلها حتى الآن، وانه مجرد محاولة محكومة سلفاً بالفشل، ما لم تعالج الإشكالية البنيوية التي من شأن استمرارها بالكيفية السائدة، إعادة إنتاج الأزمة وكل ما يحيط بها من مظاهر، فان المئوية الثانية ومعها كل المئويات التالية المحتملة وحتى الألفية القادمة، إن كان ممكناً الإبقاء على الوضع على ما هو عليه، ستؤدي إلى المزيد من التدهور والإحباط والنقمة الشعبية وستفاقم من مظاهر الأزمة والأوضاع المزرية التي تنحدر البلاد إليها على حساب شروط حياة أبناء الشعب ومعاناتهم.
إن اللجوء إلى التسويات بين المتصارعين على السلطة هو تعبير مخجل عن حال سياسي مزرٍ تبدو معه قوى السلطة وكأنها تتعارك على غنيمة، ينبغي الكف عن هذا الحال وآلياته الإرضائية التي خرجت حتى على الدستور، وإن الدعوة إلى انتخابات مبكرة أو التوجه لتشكيل حكومة الأكثرية السياسية، وأخيراً، تقديم استقالة الحكومة، وتكليف المالكي بإدارة شؤون البلاد على رأس حكومة تصريف أعمال، لا تخرج جميعها عن كونها حلولا ترقيعية ومحاولة تسويفية للمراهنة على عامل الزمن في كسر التوازنات القائمة واعتماد اصطفافٍ جديد يمكّن طرف في المعادلة من الوثوب إلى السلطة. ولا يبدو في البيئة السياسية وتجاذباتها، أن القيّمين على مقدرات الدولة المسبيّة بالعجز، يأخذون بنظر الاعتبار الرأي العام في البلاد ونزعات مكوناته التي لن تبقى متفرجة على ما يدور وتنام على أسباب ضيمها ومحنتها، وأنها يمكن في لحظة مرارة ويأس أن تحوّل نقمتها إلى انقلاب على الوضع بما فيه، خصوصاً إذا اكتشفت إمعان الأطراف المتصارعة في نهجها المخيب وأنها تتحرك خارج إطار مصالحها وتطلعاتها، وإذا ما تجلى بوضوح أكثر بطلان ادعاءات تلك القوى ودعاواها في تمثيل مصالح الناس والدفاع عنها.
إن من أسوأ ما ينتهي إليه الساسة في بلداننا هو وهمهم بأنهم وحدهم العارفون، وأنهم نخبة تفكر وتلعب فوق مستوى القدرات العقلية للشعوب، وبما يسمح لهم بالعبث بوعي الناس وبمصالحها.. هذه حال السياسيين في الدكتاتوريات.. لكن الشعوب هي الأخرى تمارس اللعب وتوهم السلطات أنها لا تعرف بما يدور وغير معنية به، تلك آلية نفسية لتفادي بطش السلطة في الدكتاتوريات.. لكننا في دولة كسرت بها الناس الطوق، وبات المواطن قادرا على تخمين ما سيقوله السياسي على الفضائية وقبل أن يتفوه به، يجب احترام وعي الشعب.. ويجب بناء السياسات على أساس التعامل مع شعب ناضج وحيوي وقادر على اجتراح الحلول، إن ليس اليوم فغدا.
لقد صبرت الناس وسكتت على ما فعلته السياسات الخاطئة بهم طيلة هذه السنوات.. وكان الحرص على استمرار الديمقراطية والخشية من سقوطها بفعل القوى المضادة هو دافع المواطنين إلى الصمت والصبر في هذه البيئة التي اختلقت فيها الفزاعات الكثيرة، الطائفية وسواها.. لكن لكل شيء حدا.. وأول من ينبغي أن يدرك هذا هي القوى السياسية التي تتحكم بالسلطة.
في مثل هذه الأحوال تضيق الحلول أمام المتنافسين.. لكن يظل السبيل الأمثل الممكن هو التوجه الى عقد طاولة سياسية يدعى للمشاركة فيها كل القوى المنخرطة في العملية السياسية، من داخل الحكومة والبرلمان ومن خارجها، وقوى المجتمع المدني وقيادات اجتماعية وثقافية بارزة مشهود لها بالوطنية والكفاءة والانحياز إلى الخيار الديمقراطي، للبحث في عمق الأزمة وإشكالياتها وتداعياتها، وصياغة وثيقة عقد اجتماعي قوامها العمل على تشكيل حكومة كفاءاتٍ وطنية انتقالية، تراعي التركيب الاجتماعي وأسسه، ووضع برنامجٍ سياسي يرتقي بالأوضاع إلى مصافاتٍ جديدة بعيدة عن الاصطفاف الطائفي والفئوي، يكون مرشداً للحكومة في الفترة الانتقالية، ويتولى البرلمان دور الرقابة والتوجيه، على أن يجري التمهيد لإجراء الانتخابات في نهاية الفترة التشريعية الحالية، على أساس قانون انتخابي جديد، والانتهاء في المهلة نفسها من وضع قانون الأحزاب وتشريع القوانين الأخرى التي تعزز هياكل واطر النظام الديمقراطي.
ومن مستلزمات إطلاق وتحقيق هذه الوجهة توفر الجرأة والشجاعة "لتجاوز الذات"، والتسلح بالحماسة والمرونة والإحساس العميق بما يتطلبه الانتقال من موقع المحاصصة الطائفية ورذائلها إلى موقع المواطنة والدولة المدنية الديمقراطية.
وهي مهمة "رجل دولة" تأريخي، يتجاوز أي موقع له يتعارض مع توصيفاته وشروط تمثيله للدولة المنشودة. ويمكن أن يبرز مثل هذا الرجل من العملية السياسية القائمة، في الحكومة او على أطرافها، شرط أن يتحرر من قيوده.
إن هذه الأفكار الأولية لا تستهدف، سوى إثارة نقاشٍ حول خيارات أخرى، غير ما نحن فيه، والاجتهاد باب مشرعٌ للتغيير، إما صيغة التغيير وأطرها ومكوناتها وأدواتها فهي تخضع للمساجلة والتفاعل، شرط تجاوز الحالة المحتقنة الحالية التي يسعى فيها كل طرف "لأكل" الطرف الآخر. وفي هذا هلاك الجميع وضياع التجربة الديمقراطية