فخري كريم
ولد هديب الحاج حمود في بيئة شديدة التناقض، تتزاحم فيها التقاليد العشائرية والقيم الأسرية الإقطاعية من جانب، وتئن في محيطها ومن حولها
كتل الفلاحين الفقراء المشدودين إلى أرض تستعبدهم وتكسر إرادتهم وتحط من إنسانيتهم وتحولهم بفعل القوانين السائدة آنذاك إلى توابع شيئية مهمشة ومستعبدة للإقطاعي، يمارس بحقهم كل ما من شأنه إلغاء كينونتهم البشرية.وفي وقت مبكر من حياته، ولم يكن قد تجاوز الدراسة الثانوية، أصبح بحكم الوراثة " شيخاً " و" رئيساً " لعشيرة الحميدات ، وملاكاً إقطاعياً .
لكنه بوعي مبكرٍ واستدراكٍ مثير للتساؤل، رفض كل ألقاب المشيخة العشائرية وطقوسها والتزاماتها المقيدة لحريته في التصرف الإنساني، واختط لنفسه مساراً مغايراً خارج السرب، وأقدم على خطواتٍ لا يجمعها مع ما استورثه جامع .
كانت سنوات انتقال هديب من مقاعد الدراسة إلى المشيخة الإقطاعية المفترضة، عام ١٩٣٦، هي الأخرى تنطوي على مساراتٍ متناقضة، إذ شهدت بوادر انتصاراتٍ إنسانية باهرة من جانب، ومؤشرات على صعود قوى الفاشية والنازية في أطراف العالم. وفي وطنه العراق، وبين أسرته الكبيرة في ريف الشامية، إحدى أكثر مراكز قوى الإقطاع عتواً، وأشد حواضن بؤس الفلاحين، كانت الحركة الوطنية بتياراتها الديمقراطية المختلفة تنمو وتتوسع كما في كل حواضر المدن وأطراف الريف، وتزداد بأساً في مواجهة استغلال الإقطاعيين والملاكين الكبار ومقارعة الطغيان الملكي.
في تلك المرحلة المبكرة، وفي محيطٍ عشائريٍ متزمت ألغى هديب الحاج حمود عدداً من التدابير الإقطاعية التي كانت تشكل قيداً واستغلالاً مشيناً للفلاحين وأسرهم البائسة، وكذلك ما كان يرافقها من إذلال ومهاناتٍ تحط من كراماتهم بما في ذلك ضربهم بالسياط في مضايف الشيوخ ووكلائهم. فاعتمد المشاركة بالمناصفة بين الفلاح والملاك في المحاصيل بدلاً من نسبة الثلث المعتمدة (٣٥٪ )، وفي وقت لاحق، بعد تلمسه الضيم الذي يواجهه الفلاح من مساوماتٍ مذلة مع التجار وأساليبهم الملتوية، اعتمد المشاركة في الوارد النقدي من المبيعات بدلاً من المحاصيل، فحدّ بذلك من تلاعب التجار بمقدراتهم.
لم تكن تلك التدابير في ذلك الزمن من باب وجهة النظر التي تواجه بالتسامح في ظل تسيّد الإقطاع وقوانينه الجائرة ، كما لم تكن تواجه من قبل الحكومة، بغض النظر أو التجاوز، اذ كان وضع الريف بالنسبة لها مثيراً لقلقٍ دائم لما يشكله الفلاحون من كتلة شعبية واسعة وقوة ضغطٍ تتجاوز محيطها الريفي وتدخل في النسيج الحيوي للحركة الوطنية ومواجهتها للحكومة وسلطتها المستبدة. وقد تعرض هديب، وإن بصيغٍ غير مرئية او وسائل مباشرة، الى ضغوطاتٍ عائلية وعشائرية لم يكن أقلها الملامة على التمرد على قيمٍ وتقاليد لا يجوز المس بها من أي كان، فكيف اذا جاء من " شيخٍ " مُبرّزٍ من شيوخها، حتى وان تنكر لمشيخته.
من بين الانتقادات والملامات التي وجهت الى هديب الحاج حمود بعد اعتماده المناصفة في المحاصيل بينه والفلاحين وغيرها من التدابير، انه يتكلف خسارة كبيرة، وكان رده أنه خلافاً لما يقال من خسارة مادية استطاع تحقيق أرباح تتجاوز ما كان يحققه قبل المناصفة، لكنه تجاوز المكسب المادي فحقق لنفسه التوازن الإنساني المطلوب، وهو مكسب يفوق كل مكسب مادي طارئ.
تحولت العلاقات بين هديب وفلاحيه الى علاقات لم تعد يربطها رابط بما كان سائداً في محيطه، فلا عقاب بالخيزران في المضيف، ولا تحريم وحبساً وإهانات، بسبب الغياب من واجبات كري الأنهر، ولا مكان للسخرة المذلة. وفي عهده نشطت الحركة الفلاحية واتسع الانضمام والإقبال على الجمعيات الفلاحية. ومن بين التناقضات التي تعامل معها هديب، التجاذب بين موقعه كملاك وانحياز الفلاحين الى الحزب الشيوعي .! وفي هذا الإطار ظهر في سلوكه ما يميز الوطني المشدود إلى رحابة إنسانية تتجاوز الانتماء الطبقي وتنفتح على قيم لا يرى فيها تناقضاً حاداً مع خياراته المتعارضة مع الاستغلال والحدود الفاصلة بين البشر وأشباه البشر.
اكتشف هديب " الإقطاعي " و " شيخ العشيرة " المفترض وأب الأسرة ، في وقت ما من تطور العائلة، انه محاط بإخوته الثلاثة: مجيد ومحمد وموجد وهم منتمون الى الحزب الشيوعي العراقي، فلم يجد في ذلك شرخاً في العائلة أو تجاوزاً على سلطته العائلية أو خروجاً على الطاعة الأسرية. وكان ممكناً تفهم هذا الموقف كتعبير عن تسامحٍ شخصي عابر محض من أخ أكبر لإخوته الشبان، لكن الموقف يتخذ بعداً مشرفاً ووعياً عميقاً، اذا ما عُرف انه شخصياً كان منتمياً الى الحزب الوطني الديمقراطي، ووجهاً بارزاً فيه ، ومرشحاً لاحقاً في أول انتخابات تخوضها الجبهة الوطنية الانتخابية .!
هكذا تسامى ذلك الزمن على كل ضروب التمايز والانقسامات والصراعات، حين كان يبرز الى الواجهة نوعٌ اخر من التجاذب والحراك، فتصبح الوطنية والمصالح الوطنية العليا فوق كل اعتبار، وتتراجع في مواجهتها الحزازات الحزبية والمصالح الفئوية وغيرها مما تغرق في متاهاتها الحياة السياسية اليوم. في ذلك الزمن حمى "الإقطاعي الوطني" الفلاحين المناضلين ضد الإقطاع والنظام شبه الاستعماري شبه الإقطاعي، ورفض الأساليب التي مارسها مجايلوه من الإقطاعيين وأدواتهم الحكومية، ولم يستجب للإغراءات التي جرى التلويح بها لاستمالته، ورفض قبول عضوية مجلس النواب او الأعيان، وهو ما عرضه عليه في أعقاب ترشحه عن الجبهة الوطنية " الانتخابية " عام ١٩٥٤ عبد الإله " الوصي " على العرش، رغم أن نوري السعيد ألغى نتائج الانتخابات بعد افتتاح الدورة البرلمانية بسبب فوز عشرة نواب من الجبهة فيها .!
لم يتردد هديب الابن المدلل للإقطاعي والشيخ والمنتمي الى حزب " برجوازي " بتوصيفات ذلك الزمان في التبرع الى الحزب الشيوعي كلما زاره فلاح شيوعي او كادر من كوادر الحزب. ولم ير في ذلك تناقضاً بين انتمائه الحزبي ونزوعه الوطني، وهو يجد التناقض الرئيسي بين الوطن والنظام المأسور من قبل أعدائه.
شغل هديب بعد ثورة تموز ١٩٥٨ وزارة الزراعة، وأصبح قطباً وطنياً بارزا في الحياة السياسية، وشارك بنشاط في معارك الدفاع عن الجمهورية الوليدة وعن التوجهات الديمقراطية، وانحاز في تلك المعارك الى الصف الوطني الديمقراطي، والتزم في سلوكه ومواقفه إبانها بما لا يتعارض مع نهجه الذي شب عليه في بداية تكوينه الوطني والإنساني . وطوال فترة البعث التزم شبه عزلة عن نظام البعث، وتجنب مكائد السلطة الاستبدادية.
ومن بين مساهماته القومية الديمقراطية البارزة، مشاركته في المؤتمر الآسيوي الإفريقي الذي عقد في القاهرة ، وكان المؤتمر تحركاً دوليا شعبيا لتعزيز الحركة التحررية الوطنية العربية، ومن بين من ضمهم الوفد أقطاب الحركة الوطنية العراقية يومذاك : محمد حديد وطلعت الشيباني وقاسم حسن وهديب الحاج حمود "الوطني الديمقراطي " وصديق شنشل وفائق السامرائي " الاستقلال "وطالب شبيب وجابر عمر" التيار القومي " وعزيز شريف ونصير الجادرجي "الحزب الشيوعي" وآخرون من سائر التيارات والأحزاب الوطنية .
عاش هديب سنواته الأخيرة شبه منعزل عن كواليس السياسة، وكأنه بذلك يعبر عن رفضه لما يسود من فساد وانعدام ذمة وتكالب على المصالح الضيقة والامتيازات والسلطة، لكنه وهو يتابع المشهد الطائفي المذهبي ومحاصصاته، يوحي، بما تسمح به طاقة الكلام المقل لديه ، بمدى استهجانه لكل المظاهر التي لا يجمعها جامع مع قيم ذلك الزمان ومظاهرها المشينة.
في نهاية زمن الاستبداد " الماضي " كنت تواقاً لرؤية من تبقى من زمن الرهافة الوطنية والملامح التي بدأت تتوارى وتختفي تاركة وراءها حسرة الحنين الى الماضي الجميل وخيبة اللوعة بحاضرٍ تتسع فيه مشاهد الخراب وتضيق منافذ الأمل على تحقيق المرتجى من الآمال. يومها تسنى لي التعرف عن قرب على هديب الحاج حمود، وحاولت ان أبحث في ملامحه ما تغير وما لم يستطع الزمن ان يغيره ، وكيف استطاع ان يصمد روحياً مع هذا الخراب الذي طال كل ركنٍ من أركان دولتنا، وأعمدة الحكم فيها. لم أجد في تلك الملامح ، سوى خيوط كأنها تريد ان تشي بما يعتري أعماقه البعيدة من غضب هادئ مستور على ما يلتقطه من مشاهد الخراب، ووقائع الآلام التي ترزح تحتها جموع الفقراء من أبناء الشعب ممن حاول، هو ابن الإقطاعي الملاك الكبير ان ينصفهم بالعدل، يوم كان مثل ذلك الموقف يطاله الشك من أقرب المقربين والعقاب من أرباب السلطة.
ولعلي أخمن ان هديب الوزير والملاك، رأى فيما يرى الحالم، قبل ان ينتقل من اليقظة الاخيرة الوداعية الى الغفوة الأبدية، انه مفعم بالسعادة والفرح الإنساني لانه ظل منتمياً الى مجد زمنه المضيء، وبريئاً من أي مقاربة مع عتمة الحاضر التي تتسور بكواسر الحكم الراهن ممن امتهنوا التجاوز على حقوق الناس والتلاعب بقوتهم ونهب المال العام وتبديد آمالهم ..
لعل هديب، وهو يستسلم لغفوته الأبدية، ردد مع نفسه مواجعنا التي ضمتها مرثيته الاعتذارية للمتبقين منا ونحن نُخَوِّضُ في وحل السياسة الفاسدة، ويقارن على عجلٍ بين وطنيتهم التي اعتمدوها خيمة تجمع أطيافهم والأسلاب التي يتعارك عليها لئام اليوم ولصوصها.
ويا له من رثاء بليغ !