TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > دفتر بشير العبودي

دفتر بشير العبودي

نشر في: 15 أكتوبر, 2012: 05:31 م

علاقة صداقتي مع بشير العبودي ابتدأت في أوائل السبعينات يوم كنا على أعتاب الدخول في العشرين من عمرنا. التقيته، لأول مرة، في مقهى "الأدب الشعبي" الذي أسسه نجفي من آل "أبو شبع". المقهى يقع عند فلكة البانزيخانة في منطقة الثورة داخل.
من لحظتها اكتشفت به ما يميزه عن غيره شعرا وسلوكا. قصيدة بشير كانت اقرب لقصيدة النثر. لم  يكن غيره يكتب بتلك الطريقة ولا اذكر أن شاعرا شعبيا قد سبقه لذلك. أما في سلوكه فقد كان محيرا. به من الرقة الروحية المنسجمة مع كونه شاعرا، وقسوة في ردود فعله تجاه مواقف أصدقائه حين لا تروق له. ازدواجية يسهل اكتشافها من قبل من يعاشره ولو لساعات قليلة. وان كانت الازدواجية "تشلع" القلب كما يقولون، إلا أني وجدت وقع ازدواجية بشير مختلفا على قلبي. ربما هي التي كانت سببا في جعله واحدا من بين أجمل أصدقائي من الشعراء الشعبيين وأحبهم إليّ!
البارحة وجدت نفسي مثل التاجر الذي إذا ألمت به الخسارات يفتش في أوراقه العتيقة، فصرت أبحث في أوراقي التي وزعتها في صناديق كارتونية غطاها الغبار بفعل السنين. رسائل وأقاصيص مقالات صحفية وبقايا تذاكر سفر وعنوانين وشخابيط بعضها يصعب عليّ فهمها رغم أني شخبطتها بيدي. كنت، كالعادة، أبحوشها ولا اعرف بالضبط ما الذي يدفعني لذلك. كل الذي اعرفه أن شيئا أشبه بالحنين قد حركني نحوها لا شعوريا. في واحد من تلك الصناديق لاح لي دفتر أزرق اللون من نوع "أبو المية". وعلى غلافه قرأت: "دفتر الجامعة .. إنتاج معمل بابل .. سعر المفرد 780 فلساً". فتحته وإذا به مجموعة شعرية بخط يد بشير عنوانها "مكاتيب".
ذكريات كثيرة أجج نارها هذا الدفتر الذي مر على احتفاظي به أكثر من ربع قرن إذ كان العبودي قد أرسله لي في أواسط العام 1987. فتحته من عند المنتصف وشممته بحرقة  وكأني ابحث فيه عن رائحة بشير الطيبة. ورائحة صديق الصبا، عند المنفي، تساوي رائحة وطن مفقود.
مررت على قصائده فاكتشفت أن للقصائد التي يكتبها الشاعر بخط يده طعما خاصا. طعم فيه شيء الحياة والدفء. شعرت في واحدة من قصائده كأنه يحدثني:
اذكروني العمر خلصان
ويزهي بشوك حبكم لو ذكرتوني
أحبابي ..  عشتوا بدمي واداري العين
بس بطيوفكم .. وبوحشة عيوني
على الله وما يخالف يالنسيتوني
 نعم  يا أبا أمير لقد صبت علينا الليالي مصائب ما كان لنا، نحن العزّل، غير أن نواجهها بحيلة النسيان. لكن النسيان يضعف ونعود نلوذ  بالذكريات إذا اشتد جور الليالي، وصارت كلما انتهت ليلة شدة جاءتنا أخرى بما هو أشد، مثل ما تشوف عيونك.
ها أنا أتذكرك وأتذكر أحلامنا يوم كنا نجوب بها شوارع بغداد نحملها صليبا لا على الأكتاف بل في القلوب. طويت دفترك ومكاتيبك مغنيا قولك:
الغربة نهر تعبان بجروحي
كلبي حجاية مسافر ..
هجرها الضوه محّارة على الشاطي
وأبد انت ولا رديت
حفرن ساجية بروحي مكاتيبك
وأبد انت ولا رديت.  

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ali

    رئيس المجلس يلتقي ب رئيس البرلمان

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جائزة الجوائز

عندما يجفُّ دجلة!

الأقليات وإعادة بناء الشرعية السياسية في العراق: من المحاصصة إلى العدالة التعددية

كلاكيت: المدينة والسينما حين يصبح الإسفلت بطلًا

مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاكرة

العمود الثامن: جائزة الجوائز

 علي حسين منذ أن إطلقها الراحل سلطان بن علي العويس في نهاية عام 1987 ، حافظت "جائزة العويس" على التقدير والاحترام الذي كان يحظى به اسم مؤسسها الراحل ، والأثر الكبير الذي تركه...
علي حسين

كلاكيت: المدينة والسينما حين يصبح الإسفلت بطلًا

 علاء المفرجي – 2 – المكان في الافلام العربية كان له حضورا مكانيا ورمزيا واضحا، لكنه ايضا لم يكن هذا الحضور يتعلق بالمكان كجغرافية، أو ثقافة، او تأثير. فالقاهرة في أفلام يوسف شاهين...
علاء المفرجي

الأقليات وإعادة بناء الشرعية السياسية في العراق: من المحاصصة إلى العدالة التعددية

سعد سلّوم تُظهر القراءة في التحوّلات الأخيرة التي شهدها النظام الانتخابي بعد تعديل قانون الانتخابات عام 2023 أنّ العملية السياسية عادت إلى بنيتها التقليدية القائمة على ترسيخ القواعد الطائفية والمناطقية. وقد تكرّس هذا الاتجاه...
سعد سلّوم

عندما يجفُّ دجلة!

رشيد الخيون لو قُيِّضَ للأنهار كتابة يومياتها، لكان دجلة أكثرها أحداثاً، فكم حضارة، سادت ثم بادت، نشأت على شاطئيه، وغمرها ماؤه، مِن أول جريانه وحتَّى جفافه، هكذا تناقلت الأخبار، أنَّ المنبع حُجب بالسُّدود العملاقة...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram