يبدو أن رهان الديمقراطية العراقية أمام تحدٍ كبير، تحد يمسّ لأول مرة جوهر المشروع السياسي، وجوهر الدولة والسلم الأهلي ونظام التعددية، إذ ينسحب هذا التحدي الى مواجهات سسيوثقافية، وسسيوسياسية تمسّ (الجسد الوظيفي) لمفهوم الديمقراطية، ولدلالاته 
يبدو أن رهان الديمقراطية العراقية أمام تحدٍ كبير، تحد يمسّ لأول مرة جوهر المشروع السياسي، وجوهر الدولة والسلم الأهلي ونظام التعددية، إذ ينسحب هذا التحدي الى مواجهات سسيوثقافية، وسسيوسياسية تمسّ (الجسد الوظيفي) لمفهوم الديمقراطية، ولدلالاته ومظاهره في السياق الإجرائي أو خارجه.
العتبة التوصيفية للديمقراطية العراقية، وطبيعة ما توجهه من قراءات ومواقف تضعنا اليوم أمام سؤال إشكالي، وتاريخي في آن معا، هل أن هذه الديمقراطية في المنظور العراقي بشكل خاص قابلة للمقارنة والمعاينة والى إمكانية تأصيلها كممارسات مواجهة للتحدي، وكخطابات تأهيلية للعقل السياسي والعقل الثقافي؟ وهل يمكن رهن محمولاتها المعقدة إلى مظاهر مشهد صادم يعاني من أزمات داخلية خطيرة على مستوى البنيات التنموية والتعليمية والاقتصادية؟ وهل يمكن تخليص هذه الديمقراطية الفتية من أوهامها ومن هيمنة الجماعات باتجاه قوننتها ضمانا لعقلانية مؤسساتها وحقوق المواطنة فيها؟
هذه الأسئلة هي الأقرب إلى اسئلة الحافة، أسئلة المواجهة، إذ بدأت تلامس وبطريقة ضاغطة المنظومة الرخوة للدولة العراقية، وتضعها مباشرة أمام مفارقات مثيرة، بدءا من مفارقة التوصيف والتداول وانتهاء بمفارقة تعاطي الجماعات المشككة بشرعية هذه الديمقراطية ومعطياتها على مستوى الواقع وتوزيع الأدوار فيه. كما أنها تتكشف ايضا عبر آثارها المقلقة على طبائع تلك الجماعات وتقبلها الانخراط في سياقات تشكل دولة تعيش أزمة فقدانها لتاريخية المركز القديم، ونظرة القيمومة الى مفاهيم الحاكمية والسلطة أو حكم النخبة أو حكم الفرد - فضلا عما تقترحه دائما بوصفها القانوني الى إيجاد نظرة جديدة للقيم التكميلية التي يجب أن ترتبط بالديمقراطية مثل الحرية والعدل والمساواة، لان الديمقراطية من دون هذه القيم هي محض هراء ومحض خطابات عائمة. لذا تقترن الإجابة عن أزمة القبول الإجرائي بالديمقراطية وفهمها وتداولها في البيئة العراقية المحكومة بمواجهة قوة الجماعات الدينية والعشائرية، تلك التي ظلت تمثل قوة خفية تهدد الدولة حينا أو تناور بقوتها الشعبوية تحت أغطية غامضة، ولعل ما برز في الأزمة الأخيرة خلال التظاهرات الشعبية التي شهدتها العديد من المدن العراقية في الأنبار وصلاح الدين ونينوى، وحتى في محافظات الجنوب العراقية ذات الأغلبية الشيعية يكشف عن طبائع القوى الخفية التي تتحكم بالشارع العراقي وتهدد الديمقراطية ذاتها، خاصة مع طبيعة النظرة الملتبسة لبعض القوى الاجتماعية/ الشعبية والدينية وحتى السياسية إلى الحكومة الاتحادية بسبب طبيعة سياساتها وإجراءاتها التي تتكشف من خلالها ازمة التعاطي مع المؤسسات الديمقراطية التي تقودها السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) والتي لم تتحول الى بيئة نشطة على مستوى الفاعلية السياسية، فضلا عن عدم تحولها الى مؤسسات صيانية حاضنة يمكنها الدفاع عن نفسها أو حتى اكتسابها الشرعنة اللازمة إزاء شعوبية العقل السياسي والديني العراقي.
الديمقراطية بلا عتبة..
أزمة الشارع السياسي العراقي هي أزمة فهم الديمقراطية، وأزمة غياب تداولها عن الممارسات السياسية المؤسساتية، إذ يكشف هذا الغياب الإشكالي عن غياب تاريخي للعتبات، العتبات التي ظلت رومانسية هشة وذات بعد ثقافوي، او حتى خضوعها الى توصيفات كثيرا ما كانت تستعيرها النخب السياسية والثقافية من مرجعيات (يسارية) ظل الكثيرون ينظرون إليها بريبة كبيرة، وربما بخوف وشيطنة، وهذا ما جعل الخطاب الديمقراطي خطابا محدودا، واكثر عرضة للاصابة بالامراض الاجتماعية التي ظلت تأكل الجسد السياسي والثقافي، وتتركه نهبا لمواضعات القوى الخارجة عن التوصيف التاريخي والتنظيمي للدولة المدنية. ولعل تمظهرات الاحداث الأخيرة كشفت من جانب آخر عن أن الديمقراطية ستبقى لمدة طويلة (على سطح صفيح ساخن) هو سطح التحديات، تحديات المستقبل، وتحديات التنمية وتحديات استدعاء التاريخ - تاريخ الأزمات والصراعات الطائفية - الذي ظل فاغرا فمه، كفضاء لإنتاج المزيد من الأزمات.. والذي يؤشر في هذا السياق هشاشة الأرضية التي تتحرك عليها الدولة الجديدة، هشاشة التعليم والاقتصاد الاشباعي والتنظيمي، وهشاشة النخب السياسية والثقافية. تلك ظلت نخبا معزولة وخاوية وغير قادرة على صناعة بؤر جاذبة للوعي المدني المؤثر، وبالتالي فان تداعيات تراكم الأزمات أسهمت في افقار حيازة الوسائل المادية للتأسيس الفاعل والعقلاني لنظام قيمي للديمقراطية بديلا عن القوى العميقة في المجتمع التاريخ العراقي التقليدي، اقصد قوى الجماعات التي لم تندمج بشكل فعال في اطر المجتمع المدني وتتقبل مؤسساته الدستورية.
الديمقراطية وفوبيا التاريخ.
عناوين الديمقراطية في الحكم العراقي منذ عام 1968 لحد عام 2003 كان تحمل وصفات شعاراتية صارخة ومثيرة، وباعثة على الريبة، لأنها كانت في سياق ظاهرة الحكم ومصممة لتكريس نمطه الاستبدادي، الباعث على تعزيز قوة سلطة الجماعة او العسكرة او الايديولوجيا وصناعة قوتها في السيطرة والرقابة وامتلاك مصادر الثروة والعنف، ولخلق فضاءات نفسية محشوة بالخوف وإشاعة فكرة التابعية مقابل تهميش أي دور حقيقي للآخرين، فضلا عن اصطناع أشكال رهابية وتقديسية تعزز فوبيا نموذج الحاكم ونموذج التاريخ الذي يمثله على اساس رمزية وعصبوية هذا النموذج، وبالشكل الذي يمنع تداول أية فكرة حول التداول السلمي للسلطة، اذ تحولت ديمقراطية الانتخابات ولأكثر من دورة انتخابية للمجلس الوطني (المجلس التشريعي) في ظل ظل حكم سلطة البعث الى ظواهر استعراضية للإيهام بوجود اشكال من الاداء المؤسساتي لسلطات الدولة، والتي لم تكن في حقيقة الامر الاّ تابعا لحكم النموذج.. ولعل طبيعة هذا الحكم وغياب الفاعليات الحقيقية للديمقراطية هو المسؤول عن التشويه الثقافي للديمقراطية مقابل دوره في استشراء صور أكثر رعبا للاستبداد السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي، وللرغبة الرهابية في صناعة (المجتمع النقي) وهي رغبة مضادة لفكرة الديمقراطية أساسا، إذ ان الديمقراطية تعني مجتمع التعدد والتنوع، لكنه مجتمع التنظيم أيضا.
الفهم المشوه للديمقراطية تحول الى فهم هيمنة، لانه يقوم على عملية طرد مركزي - عقائدي، جماعاتي - للكثير من المكونات الاخرى، وتهميش فكرة المواطنة التي تعدّ جوهرا حقوقيا في البيئة الديمقراطية، فضلا عن ان هذه السياسات المهووسة تسببت ايضا عن التورط في الافقار الوطني، وعن ممارسة سياسات عشوائية وتصفيات داخلية واحداث حروب دامية بعيدة عن ارادة المجتمع المدني، تلك التي استنزفت كل امكانات الدولة والمجتمع وتحولت الى مصدر كبير في تحويل العراق الى بلد مستدان، بلد طوارئ عامة، أي بلد يعاني من انهيار نظامه الاجتماعي والاقتصادي والتنموي، وهو ما ادى بالنهاية الى ايجاد عتبات واضحة لسقوط النموذج وشعاراته واوهامه بواسطة الاحتلال الخارجي.
ما بعد عام 2003 تحولت العناوين الديمقراطية الى خرائط طريق مموهة للزمن السياسي الجديد، اذ كان الخطأ الأول الذي أقدم عليه بول بريمر الحاكم الامريكي المدني للعراق الذي كان يشبه المندوب السامي البريطاني، في صياغة (مجلس الحكم) وتوزيع السلطة على اسس طائفية، الباعث المثير للجدل لكل (المسكوت عنه) في التاريخ الصراعي العراقي، اذ باتت المؤسسة الديمقراطية الجديدة مؤسسة هامشا لم تملك عناصر القوة والفاعلية، وتفتقر إلى الشرعية المهنية، وأضحت العناوين الطائفية هي المقود الذي يوجهها، والكل يعرف ان (الطائفية) منطقة ملغومة ومحكومة بحساسيات دولية وإقليمية وعربية، تلك التي ظلت تتوهم طوال قرون ان الدولة العربية يجب ان تحكمها قومية معينة وطائفة معينة، بقطع النظر عن الاغلبية او الاقلية، وهذا الحكم العصابي وضع امام التجربة العراقية الجديدة أكواما من الحجر، وغابات من الشكوك، مثلما تحولت الى دافع طائفي محرض لجلب العنف الى العراق تحت عناوين مواجهة الاحتلال الخارجي.
وبالمقابل فان النموذج الجديد لم يعمل على ايجاد الحواضن المضادة لهذا المعطى، اذ ظلت الكثير من المؤسسات، بما فيها المؤسسات الديمقراطية، عاطلة عن اداء دورها التاريخي في صناعة رأي عام يقبل بالتحول ويطمئن اليه، وخلق اجواء ايجابية لتعزيز قيم المواطنة في الدولة، والتعريف الواضح بسلطاتها، ولاشاعة قيم الحداثة والتنوير، ولبناء المؤسسات الخدماتية التي ينبغي ان تواجه تاريخا معقدا من الخوف والجوع والحرمان.
عناوين هذه الديمقراطية لم تتأصل للأسف بالبيئة العراقية المضطربة، وظلت وقائع الحياة العراقية ازاءها باردة وغائمة وتواجه احتمالات مفتوحة لحروب ثانوية باثة ومولدة لكل مظاهر العنف والإرهاب والتكفير، وتبتعد عن المواجهة الكبرى التي تتعلق بصناعة الوعي والتنمية والعمران وبناء دولة المؤسسات والعدل الاجتماعي، وصياغة قيم جديدة لادارة ملفات تركها النظام السابق مفتوحة امام تحديات ترتبط بعقدة النظام العربي الفاشل والمحكوم بقيم طائفية وعصابية، والتي تنظر من خلالها للواقع العراقي بعيدا عن اية حسابات لوجود دولة جديدة تكون عامل اطمئنان وسلام في منطقة مفتوحة على المجهول..
أزمات وحافات..
الشارع العراقي اليوم هو نتاج لكل هذه الأزمات، مثلما هو نتاج لسياسات التلفيق الذي ظلت القوى السياسية تمارسه ازاء بعضها البعض، خاصة في التعاطي مع ملفات معقدة، ملفات تتعلق ببناء الدولة وقبول الآخر وبتعقيدات تنفيذ الدستور بوصفه القانون العام للديمقراطية، وكذلك في ايجاد الآليات الحاضنة التي من شأنها ان تكون القوة الأخلاقية والرمزية والاجرائية والتعويضية للدفاع عن المجتمع السياسي الجديد، اذ ظل هذا المجتمع بيئة ازمات، وبيئة سوء اندماج، وبيئة شكوك، أي انها بيئة حافات حادة دافعة لصناعة جماعات وقوى ومكونات تتماهى مع خطاباتها وشعاراتها المهيجة والاستعادية. مجتمع هذه البيئة مجتمع مهدد بالانقسام او التعرض لتعقيدات العصيان او الصراع الاهلي. ولعل محمولات الاحداث الأخيرة أثبتت مصداقية هذه التوجهات التي اقترنت بأوهام السياسيين حول صناعة الدولة، وصناعة الدستور، وصناعة مجتمع النخب...