يشير بعض النقاد إلى أن الكاتب المسرحي الروسي الكساندر نيقولايفتش أستروفسكي ( 1823-1886) هو شكسبير روسيا، وهذا القول صحيح جزئيا، إذ يستطيع الانكليز أن يقولوا بعد شكسبير إن لديهم مسرحا، وكذلك يستطيع الروس أن يعلنوا ذلك أيضا بعد أستروفسكي، أي أن كليهما
يشير بعض النقاد إلى أن الكاتب المسرحي الروسي الكساندر نيقولايفتش أستروفسكي ( 1823-1886) هو شكسبير روسيا، وهذا القول صحيح جزئيا، إذ يستطيع الانكليز أن يقولوا بعد شكسبير إن لديهم مسرحا، وكذلك يستطيع الروس أن يعلنوا ذلك أيضا بعد أستروفسكي، أي أن كليهما قد خلقا ريبورتوارا مسرحيا متكاملا لأمتيهما، رغم أن الأهمية العالمية لشكسبير تختلف بلا أدنى شك عن أهمية استروفسكي العالمية، وهذا ناتج عن عوامل كثيرة ومتشابكة لا تدخل طبعا ضمن نطاق مقالتنا هذه.
يتميز استروفسكي بين كل أدباء روسيا في كونه قد كرس كل نشاطه الأدبي للمسرح فقط، ولم تتكرر هذه الظاهرة لحد الآن في تاريخ الادب الروسي ومسيرته، وهكذا استطاع استروفسكي تأليف ( 47) مسرحية، إضافة الى انه ترجم أكثر من (20) مسرحية أخرى عن اللغتين الايطالية والفرنسية، وبهذا أصبح فعلا واضع أسس المسرح الروسي بلا منازع، وهناك رسالة كتبها الأديب الروسي الكبير غانجروف الى استروفسكي يقول فيها – (لقد قدمتم للأدب مكتبة كاملة من النتاجات الفنية، وخلقتم لخشبة المسرح عالما خاصا، وانتم من أكمل البناية التي وضع حجرها الأساسي كل من فانفيزين وغريبويديف وغوغول، لكن فقط بعدكم نستطيع – نحن الروس – ان نقول وبفخر- يوجد عندنا مسرح روسي وطني، والحق يقال، ان هذا المسرح يجب ان يسمى مسرح استروفسكي).
نشر استروفسكي عام 1850 اول مسرحياته، وحياها رأسا كل من غوغول وغانجروف، ولكن تم منع عرضها لانها تناولت حياة التجار وفضحت ألاعيبهم، ولم يسمح بعرضها الا عام 1861 فقط. ابتدأ استروفسكي منذ عام 1853 ولأكثر من ثلاثين سنة بكتابة المسرحيات وكان يتم عرضها في المسرح الإمبراطوري في موسكو ( الذي اصبح اسمه في ما بعد ماللي تياتر- اي المسرح الصغير، وهو يقع جوار مسرح بولشوي تياتر – اي المسرح الكبير في قلب موسكو)، وكانت كل مسرحية من تلك المسرحيات تعد حدثا ثقافيا وفنيا تشيد به الاوساط الثقافية والصحافة الروسية آنذاك، وتم انتخاب استروفسكي عام 1863 عضوا مراسلا في اكاديمية علوم بطرسبورغ ، وتم كذلك انتخابه عام 1874 رئيسا لجمعية كتٌاب الادب المسرحي الروسي وموسيقاري الاوبرا وبقي رئيسا لها حتى وفاته عام 1886، ومنحه قيصر روسيا الكساندر الثالث عام 1883 تقاعدا خاصا مقداره 3000 روبل سنويا.
يرتبط اسم استروفسكي في تاريخ الادب الروسي باسم الناقد الأدبي الشاب دبرالوبوف، إذ كتب الناقد هذا مقالة مشهورة تناولت بالتحليل مسرح استروفسكي تحت عنوان (مملكة الظلام)، وقد أثارت تلك المقالة في حينها ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية الروسية، لانها كانت تؤكد ان مسرح استروفسكي كان يجسم الوضع الاجتماعي الرهيب السائد في روسيا القيصرية آنذاك، وكان الناقد دبرالوبوف واحدا من شخصيات النقد الأدبي الثوري، الذي يؤكد النزعة الغربية بالفكر الروسي في صراعها مع النزعة السلفيانية (أي السلافية)، وقد حاول الناقد دبرالوبوف أن يثبت أن استروفسكي يجسد – في مسرحياته - أفكارهم، ولكن في الوقت نفسه كان أنصار النزعة الفكرية السلافية يحاولون أيضا ان يثبتوا أن استروفسكي يجسد أفكارهم. وكتب الناقد دبرالوبوف بعد تلك المقالة، مقالة أخرى بعنوان ( شعاع ضوء في مملكة الظلام)، تناول فيها مسرحية استروفسكي ( العاصفة الرعدية) التي صدرت عام 1860 ( اختلف المترجمون العرب بشأن ترجمة تسميتها، فمنهم من ترجمها بـ – العاصفة الرعدية ، ومنهم من ترجمها – الصاعقة ، ومنهم من ترجمها – العاصفة، ولكنها استقرت بالعربية بكلمتين وهما العاصفة الرعدية رغم ان التسمية بالروسية تتكون من كلمة واحدة) . تعد هذه المسرحية واحدة من النتاجات المركزية في إبداع استروفسكي ، بل إن احد النقاد أطلق عليها اسم (جوهرة المسرح الروسي). توقف الناقد دبرالوبوف بالتفصيل عند هذه المسرحية وحاول أن يجسد عبر هذه المسرحية تلك الأفكار التي كان يدعو هو (وليس المؤلف) الى نشرها وتأكيد صحتها، وهي الأفكار التي كان يدعو إليها أنصار النزعة الغربية التي اشرنا إليها في أعلاه، ولا مجال في اطار هذه المقالة التوقف عند ذلك الموضوع الكبير والمتشعب في تاريخ الادب الروسي. لقد كان النقد الادبي السوفيتي يؤكد كثيرا على هذه المسرحية لأنها تجسد صرخة احتجاجية لبطلتها يكاترينا التي لا تجد مخرجا من الضغط الاجتماعي عليها سوى الانتحار،وكان دبرالوبوف (واستمرارا له النقد الادبي في المدرسة السوفيتية) يؤكدون على الظروف الاجتماعية الخانقة التي كانت سائدة في العصر القيصري في روسيا، إلا ان النقد الادبي المضاد لهم طرح سؤالا أمامهم وهو – لماذا ما زالت هذه المسرحية تثير القارئ والمشاهد حتى الآن، اذا كانت تتناول الضغط الاجتماعي في زمن روسيا القيصرية ليس إلا؟ إن البطلة يكاترينا هي رمز للتمرد على الظلم الاجتماعي الذي يقع على الإنسان بغض النظر عن النظم السياسية السائدة في المجتمع الإنساني، وهذه مسألة فلسفية عميقة طرحها استروفسكي في اطار مسرحيته الخالدة تلك. ولا بد في هذا المجال من الاشارة الى ان استروفسكي نفسه قد اشار الى انه مع النزعتين الفكريتين المتصارعين في تلك الحقبة التاريخية، اذ كان يجد المنطلق الوطني في مواقفهما تجاه روسيا وموضوع تقدمها وتطورها، وكان ينظر بسخرية الى تأزم الصراع بينهما ، بل انه اسماه مرة (طفوليا). لقد كان استروفسكي يهدف الى تأسيس مسرح روسي وطني لانه كان يؤمن إيمانا عميقا ، ان المسرح يعني (بلوغ سن الرشد للأمة)، وانه لا يمكن للأمة المتقدمة ان تكون بلا مسرح وطني يعتمد النصوص المسرحية الوطنية أساسا، وقد استطاع بمثابرته ان يخلق ذلك المسرح فعلا، وهي خدمة عظيمة قدمها استروفسكي لامته.
لقد تحولت (38) مسرحية من مسرحيات استروفسكي إلى أعمال سينمائية روسية ما زالت معروفة ومشهورة في الحياة الثقافية الروسية لحد الآن، وما زال المواطن الروسي يشاهد مسرحياته التي لا يخلو موسم مسرحي منها، وما زال تمثاله الفخم الجميل وهو يجلس على كرسي امام مسرح (الماللي تياتر) في قلب موسكو، وما زالت الكثير من مسارح روسيا تسمى باسمه، وترجمت الكثير من مسرحياته الى لغات عديدة في العالم، منها لغتنا العربية، وساهم الزملاء من مصر في هذه العملية الإبداعية ومنهم الدكاترة؛ فوزي عطية و سمية محمد عفيفي وهاشم حمادي ومكارم الغمري وعطية عبد الرحمن السيد، وصدرت ترجماتهم ضمن سلسلة المسرح العالمي في الكويت، ومن العراقيين ساهم الأستاذ عبد الله حبه الشخصية العراقية الثقافية المعروفة ( والذي يقطن في موسكو منذ أكثر من خمسين سنة) بترجمة مسرحيات استروفسكي ضمن منشورات دار التقدم ورادوغا السوفيتيتين ، وقد أنجزنا في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد أطروحة ماجستير كتبها طالب الماجستير ( الدكتور حاليا) ميثاق محمد وبإشرافي العلمي، تناولت ترجمات عبد الله حبه لمسرحيات استروفسكي، وهي أول أطروحة ماجستير عراقية حول استروفسكي.