ما الذي يمكن أن يقوله محلّل اجتماعيّ مثل علي الوردي عن حال المثقفين العراقيين والعرب اليوم؟ وهل أن منظومته التحليلية الواضحة، السهلة بشأن صراع "البداوة" و"الحضارة" قادرة على إدراجهم فيها؟ هم الذين يزعمون الانسلاخ عن مبادئ البداوة والقبيلة والعائلة والطائفة، بينما بعضهم يتشبث بطقوس العائلة وأسمائها، وبعضهم الآخر ينتمي للقبيلة جهاراً، وبعضهم الثالث يراوغ بين جدران الطائفة بنوع من "التقية" حتى عند مَنْ يرفضها "فقهه". ثم ما علاقة بعضهم أو الكثير منهم بفقه السلطة، وتنقُّله، بمتعةٍ ما بعدها من متعةٍ وبنوعٍ من "الشيزوفرينا"، بين الراقي اللفظي والنميمة الصغيرة. ما علّة ارتباطه أو خوفه المُزْمِن من المؤسسة والدولة والحاكم، وتملقه الخفيّ لها، وتقلُّبه بين أيديها؟.
ثمَّ لِمَ لا يُقدّم "نقاد المثقفين" بديلاً ثقافياً ناضجاً، ولماذا يخلط بعضهم الأخضر باليابس، ولا يعجب الآخر العجب العجاب، مع أن بعضهم أو الكثير منهم يدور في الإطار نفسه تماماً: البداوة والقبيلة والعائلة والطائفة والنميمة التي يُضاف إليها أحياناً القسوة اللفظية المفرطة تجاه "المثقفين"، وأحياناً الجهل الواضح بمنجزات من ينقدونهم؟ ولماذا يودّون العودة إلى نقطة الصفر عبر تعريف "الثقافة" ومن هو "المثقف"، في حين يبدون عارفين بهذا التعريف عبر نقدهم "للمثقفين" الذي يستوجب هذه المعرفة وذاك التحديد؟
طالما أشِحنا بوجوهنا عن هذه الأسئلة.
لنبق عند مشكلة واحدة ظل السجال العلني، الحامي أحياناً، يدور حولها: الطائفية في العراق. لا يبدو لي كافياً أن يرفض "العلمانيون" و"المتسامحون" الطائفية، أيّاً كان مصدرها، بأعلى الأصوات، لا يكفي نقد الأحزاب ذات التوجهات الدينية التي تزعم كلها دون استثناء أنها براء من الطائفية. لا يكفي تأييد الثورات العربية ونحن ندفن رؤوسنا مثل النعامة ولا نرى الطبيعة الطائفية في مكوّنات مهمة في بعضها (كالحديث المُستهجَن عن الطائفة العلوية في سوريا). لا يكفي. ثمة توجهات طائفية حقيقية في العراق والعالم العربي اليوم تبرهن عليها الأحداث الجديدة في العراق هذه المرة، بقوة. وفي سوريا أيضاً بقوة مماثلة. ثمة تاريخ مستتر عمره مئة عام من الطائفية تقريباً، هو تاريخ الدولة العراقية الحديثة نخشى جميعا الحديث عنه لكي لا نُتهم بالطائفية، وهذا لن تلغيه إلا المصارحة الحق والاعتراف أن هناك عدم ثقة متبادَلة بين جميع الأطراف، يعمّقها سياسيون فاشلون ومحاصصة يتوجب إلغاءها قطعاً. تاريخ يجب الاعتراف به بأعلى الصوت، ولن يزحزحه إلا احترام دستور الدولة المدنية (التي لا يحترمها لا هذا ولا ذاك من ساسة الطوائف الفاسدين، إلا لفظياً) والانتباه للمحاولات المحمومة الخارجية لكي يتحارب أبناء البلد الواحد. هنا في ظني يقع دور ممكن للمثقفين في لمّ الشمل على أساس منطقيّ واضح.
محاولات تأجيج الاحتراب حثيثة وتتصاعد بخبث على أقلام "مثقفين" عرب أيضاً. تفوح مقالة د. محمد صالح المسفر يوم (8-1-201) في "القدس العربي" برائحة طائفية قوية، ليست زكية الرائحة، رغم مزاعمه العروبية. هل يحبّ أهل العراق المعارضين لسياسة المالكي، عنجهية من هو على شاكلة المسفر، مَنْ مِنْ العراقيين يودّ أن يحلّ أحد محلّه في تقرير الصالح لبلده. أهل مكة أدرى بشعابها. مشكلة المسفر ومن لفّ لفه أنهم فقط وحصرياً، يريدون محاربة إيران (التي لا نؤيدها بالضرورة) على أرض العراق والأرض السورية بثمن تشتيت وتقتيل أبناء البلدين مستغلّين معارضة ومقاومة شريحة كبيرة قوية فيهما للباطل من أجل العدالة والكرامة. مشكلتهم ليست من طبيعة مشكلتنا أبداً، ورؤيتهم ليست رؤيتنا. محمد المسفر غير مهتمّ بأي حرب أهلية يحرّض عليها ما دامت تخدم ما يظنّ أنه يصبّ في النهاية في خدمة حربه المذكورة المحمومة.
أهل العراق من جميع الطوائف، من "المثقفين" و"نقاد المثقفين" يعلمون بأن هذا الخطاب ملغوم وليس خطابهم.