لم يتعب السياسيون العراقيون الشيعة والسنة والكرد منذ سنوات من محاولات سحب المرجع الديني الأعلى علي السيستاني إلى صراعاتهم السياسية المتواصلة، لم يصب اليأس بعض الأحزاب الشيعية ، حتى هذا اليوم ، وهي تسعى بكل وسيلة إلى تعبيد المسافة الشاسعة بين نظرية ال
لم يتعب السياسيون العراقيون الشيعة والسنة والكرد منذ سنوات من محاولات سحب المرجع الديني الأعلى علي السيستاني إلى صراعاتهم السياسية المتواصلة، لم يصب اليأس بعض الأحزاب الشيعية ، حتى هذا اليوم ، وهي تسعى بكل وسيلة إلى تعبيد المسافة الشاسعة بين نظرية النجف القائمة على إبقاء المرجعية الدينية بعيداً عن التفاصيل السياسية، ونظرية قم الإيرانية القائمة على تولي رجل الدين أمور السياسة بنفسه.
لكن السيستاني ، الذي يحتفظ بتلك الكارزما الطاغية لرجل ينتمي إلى إرث عتيق من الصعب تغييره ، قاوم ويقاوم كل تلك المحاولات، ليس من باب الزهد بالسياسة وسلطانها فقط، بل لحماية ملايين الشيعة من مقلديه عبر العالم من قطع الخيط الرفيع الماثل بين الرمز الشيعي الديني ، والزعيم السياسي.
أخيراً قال السيستاني في توصيات بالغة الدلالة ألقاها معتمده في كربلاء حول أزمة التظاهرات السنية إن الدولة التي يدعو إليها هي "دولة مدنية"، قائمة على احترام القانون والدستور وحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص والمساواة.
لم يتحدث أكبر مرجع ديني إسلامي عن "دولة دينية" ، ولم يسع إلى تغليف خطابه للجمهور والسياسيين بتعابير دينية أو آيات قرآنية أو أحاديث من السلف، بل قالها بوضوح وبلغة تفهم عبر العالم : "دولة مدنية".
وهذا الفهم لايعني فقط أن السيستاني يفهم بعمق حراكات المجتمعات الإسلامية وتنوعها وتضارب الرؤى بينها حول مصطلح وحدود "الدولة الدينية"، بل إنه يعني بالدرجة الأساس أنه كمعظم كبار المراجع الشيعة عبر التاريخ ، ينظر إلى المجتمع ودور الدين فيه كعلاقة تفاعلية ، لا أحادية، وكانت تلك الرؤية قدسمحت في مراحل مختلفة في تكيف المذهب الشيعي مع التطورات السياسية والتاريخية التي مر بها، كما أنها الرؤية نفسها التي سمحت بأن يكون فهم الدين وموقفه من السياسة قائم على أساس الاستقلالية لا التبعية ولا العدائية.
لاتتطابق وجهة نظر السيستاني مع الكثير من الزعماء الدينيين والسياسيين الشيعة، فبعضهم مازال يحلم أن تتولى العمامة منصب رئاسة الحكومة ، فيما يرى السيستاني أن رمزية العمامة الدينية تمتد إلى أبعاد في التاريخ والزمن والأمكنة ، وهي جزء أساسي من الضمير الجماعي، أكثر منها وظيفة حكومية.
استقبل السيستاني قبل أيام ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في بغداد مارتن كوبلر وبحث معه أزمة التظاهرات، وكانت وجهات النظر بين الرجلين متطابقة حول خريطة الطريق التي يجب أن تعتمد لحل الأزمة.
واللقاء يأتي بعد نحو ثلاث سنوات من إغلاق السيستاني بابه أمام السياسيين العراقيين،سببه الرئيسي امتعاضه الشديد من أدائهم و لإجبارهم على ممارسة السياسة بعيداً عن أية مؤثرات دينية أو مذهبية. ممارستها باعتبارها "وظيفة" لا "مهمة دينية"، ومن هنا فقط لم يكن أمام السيستاني عندما وصلت الأزمة العراقية إلى مراحل خطيرة غير أن يحدد مفاهيمه للدولة وهي : "مدنية" يستوي فيها الشيعي والسني والكردي ولا فرق في ذلك إلا لصناديق الاقتراع، وهي أيضا "قانونية" يكون الدستور الحديث المتناغم مع حقوق الإنسان والديمقراطية هو غطاؤها، والقضاء هو حكمها، وهي "مسالمة" بمعنى احترام القواعد والقوانين الدولية والانضباط ضمن معايير الأمن والسلم الدوليين.
نقل عن موقع المونيتور الإنكليزي