مَنح الاستخدام المجازيّ واسع النطاق للمفردات العربية طاقة متدفقة للممارسة الإبداعية، الشعرية والنثرية. نتبيّن اليوم أنها ليست مفيدة دائماً على الصعيد الاصطلاحيّ، خاصةً في اختصاصات دقيقة، نسمّي منها المصطلح التشكيليّ. لقد سبق أن كُتب عن استخدام النقاد التشكيليين وطلبة الفنون المُلتبِس لمفردات مثل (رسم) و(تصوير) (وتمثال) و(تمثيل) وغيرها الكثير.
تستطيع الفرنسية والإنكليزية منح مفردة مثل (idole) معنى دقيقاً: آلهة، شكل ّصوريّ أو نحتيّ يمثّل آلهة، أو مجازياً آلهة زائفة، ثم المعبود عموماً، المحبوب إلى درجة العبادة الفعلية أو الرمزية كالنجم الجماهيريّ، وما يتبع ذلك من استخدامات مجازية (طيف، وهم، امرأة فاتنة...الخ). ويغدو في النهاية رديفاً للنزعة الفتيشية fétiche. إننا في فكرة العبادة الفعلية أو الاستعارية. يمكن للغتين التفريق بين هذه المفردة ومفردات أخرى مثل تمثال (statue) أو نحت (sculpture). وهذا ما لا تستطيعه دائماً الاستخدامات العربية الحالية التي تخلط بين (الوثن) و(الصنم) و(التمثال) و(النحت). النتائج الناجمة، عند قراءة "تاريخ الفن" في المنطقة ستكون مضطربة والحالة هذه.
لا تقدّم المرجعيات اللغوية العربية مثل "لسان العرب" مادة معجمية، إنما مادة معرفية، وتستطرد لتقدِّم، مداورَةً، تاريخاً للفن في المنطقة. وهي لا تَسْقط دائماً في الالتباس لأنها تفرِّق تفريقاً معقولاً بين المصطلحات، ما زلنا بعيدين عنه. فهي ترينا الحدود، قدر ما تستطيع، بين المصطلحات المذكورة وتضيف لها (النصب)، شريطة إعادة تفكيرنا وتأملنا بالمعاني الممنوحة للكلام يومذاك، استناداً إلى الأدبيات والسياق الثقافيّ.
فالوَثْن والواثن هو المقيم الراكد الثابت الدائم، وقد وثَن ووَثَن بالمكان. ابن الأَثير يذكر: "الفرق بين الوَثَن والصنم أَن الوثن كل ما له جثة [بمعنى كتلة volume] معمولة من جواهر الأَرض أَو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تُعمَل وتُنْصَب فتُعْبَد [يقصد تُوْحِي بصورة الآدمي من دون أن تكون تشخيصاً واقعياً له]، والصنم هو الصورة image بلا جثة [يقصد صورة تشخيصية ثنائية الأبعاد ولعله نحت بارز وليس كتلة ثلاثية الأبعاد، والصنم بمعنى الصورة ضاربٌ في استخدامات المنطقة الساميّة قبل الإسلام]؛ ومنهم من لم يفرّق بينهما وأَطلقهما على المعنيين". قال: "وقد يُطلق الوثن على غير الصورة": بعبارة أخرى ليس الوثن نحتاً تشخيصياً، إنما معبوداً دون صورة بالضرورة. كل معاجم اللغات السامية تؤكد أن مفردة الصنم slm تشمل فكرتيْ المنحوتة التشخيصية والصورة كليهما، حسب السياق.
ثم يذكر أن: "أَصل الأَوثان عند العرب كل تمْثال [يقصد هنا بكلمة تمثال مفهوم التمثيل représentation وهو استخدام لا تنقصه الدقة] من خشب أَو حجارة أَو ذهب أَو فضة أَو نحاس أَو نحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. وكانت النصارى قد نصبت الصليب وهو كالتمثال [أي التمثيل، خاصةً وأن الصليب قُدّم غالباً وفيه نحت للمسيح المصلوب] تُعَظِّمُه وتعبده، ولذلك سمّاه الأَعشى وثناً [يقصد معبوداً idole]؛ وقال: تَطُوفُ العُفاةُ بأَبْوابِه، كطَوْفِ النَّصارى ببَيْتِ الوَثَنْ
أَراد بالوثن الصليب. وقال عَدِيّ بن حاتم قدمتُ على النبي، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: أَلْقِ هذا الوثن عنك [يقصد المعبود idole]، أَراد به الصليب، كما سماه الأَعشى وثناً.
ويقال إن الصنم معرَّب شَمَنْ، وهو الوثن: "وهو يُنْحَت من خشب ويُصاغ من فضة ونحاس، وهو ما كان له جسم أَو صورة، فإن لم يكن له جسم أَو صورة فهو وثن". هنا استعادة لتفريقه بين التمثال التشخيصي والمعبود دون صورة. وأن "الصَّنَمة والنَّصَمة الصورةُ التي تُعْبَد". وفي القرآن "واجْنُبْني وبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصنام". وفي تأويلها: "ما تخذوه من آلهة فما كان غير صورةٍ فهو وثن، فإذا كان له صورة فهو صنم، ومن العرب من جعل الوثن المنصوبَ صنماً"، والصَّنَمةُ الداهيةُ، أَصلها (صَلَمة). وروي عن الحسن: "لم يكن حيٌّ من أَحياء العرب إلا ولها صنم يعبدونها يسمونها أُنثى بني فلان". سنعود إلى فكرة التمثال- الأنثى لاحقاً.
تؤكد المعطيات، رغم اضطرابها، أن أمر الصنم، وليس الوثن، يتعلق غالباً بتمثال تشخيصيّ، بالمعني المعروف للكلمة.
يتبع