اللغة، المنطقة والصراعات تهيمن على عمل الحائزة على جائزة نوبل هيرتا ميللر. ولدت ميللر في رومانيا من عائلة من الأقلية الألمانية التي استقرّت في منطقة البانات في القرن الثامن عشر، ويعكس تاريخ أسرتها الخاص الاضطرابات العظيمة والحرب والترحيل. مثل الكثير
اللغة، المنطقة والصراعات تهيمن على عمل الحائزة على جائزة نوبل هيرتا ميللر. ولدت ميللر في رومانيا من عائلة من الأقلية الألمانية التي استقرّت في منطقة البانات في القرن الثامن عشر، ويعكس تاريخ أسرتها الخاص الاضطرابات العظيمة والحرب والترحيل. مثل الكثير من ألمان بانات، تطوّع والدها في وحدات الأس أس أثناء الحرب العالمية الثانية. والدتها، مثل الآلاف من النساء من العرق الألماني بين سن 17 و45، رُحِّلَت بالقوة إلى معسكر عمل بالسخرة في الاتحاد السوفييتي بعد الحرب، وقضت هناك خمس سنوات.
نشأت ميللر في ظل نظام شاوشيسكو، وروايتها "بلاد البرقوق الأخضر" تستحضر على نحو متألق الطبيعة الدنيئة، والتافهة حتى لقبضة المجتمع التوتاليتاري على مواطنيه. مخيلتها جلية على نحو مروّع ومع هذا كابوسية. خلف كل شيء مألوف – شجرة برقوق، مفتاح، ثوب، شعرة واحدة – ثمة منطقة نائية، كما في الحكاية الخرافية، مفعمة بالظلال والصمت. ثقل ما لا يمكن أن يقال يجري ببطء على الخط القصصي. تشترك "ملاك الجوع" بهذه الكثافة الشعرية للغة مركزة، ومتغيرة الشكل، وبناء من فصول سريعة، تتحاور مع بعضها البعض بشكل غير مباشر. هذا الحفيف الخفي من الحوار بين الأجزاء يكشف ببطء عن فداحة الكل.
عندما عاد الألمان المرحلون إلى بيوتهم، كان الجو السياسي يحتّم أن تكون قصتهم مروية بهمس، إن لم تكن غير مروية على الإطلاق. آلاف عديدة كانوا قضوا نحبهم، من بينهم صديقة والدة ميللر، التي سُميِّت هيرتا في ما بعد على اسمها. كما تقول ميللر في تقديمها لرواية "ملاك الجوع" :((كان الترحيل موضوعا محظور الحديث عنه لأنه يذكِّر بماضي رومانيا الفاشيستي)). أكثر من خمسين عاما بعد ذلك، بدأت هي بتحدي هذا الصمت المفروض، بالحديث مع مرحّلين سابقين من قراهم، ومن خلال أحاديث طويلة مع الشاعر اوسكار باستيور حول سنواته في معسكرات العمل السوفييتية. فكرتا الكاتبين اجتمعتا في كتاب موسّع، ووضعت ميللر ملاحظات مكثفة من شهادة باستيور. بعد موت باستيور، قررت ميللر الاستمرار وحدها وتأليف كتابها، الذي نُشِر في ألمانيا تحت عنوان "آتامشواكل" ("إرجوحة النَفَس") والآن في بريطانيا، بعنوان "ملاك الجوع".
الرواية مروية بصوت ليو اوبرغ، فتى في السابعة عشرة من العمر، اكتشف لتوه جنسانيته كشيء ((غريب، قذر، مخز وجميل)). لقاءات ليو مع رجال في مقصورات الحديقة العامة وفي حمامات نبتون كانت ستقوده إلى السجن أو إلى مكان عقاب إن تم القبض عليه. بدلا من ذلك، وبسبب عرقه الألماني، فإن اسمه هو، بأي حال، على قائمة الترحيل، ويجب أن يرحّل إلى معسكرات العمل. يصنع الفتى حقيبة سفر من صندوق غرامفون، ويملأها بكتاب فاوست، ديوان شعر، كولونيا بعد الحلاقة، جوارب، ووشاح حريري بورغوندي... كل مادة هي مفصّلة على نحو موسوس. لا فقط أن كل واحدة منها تشكّل فرقا في البقاء على قيد الحياة، لكن، كما في رواية ميللر، كل مادة تتملك قوة ستكشف فقط عن ذاتها. ما تعطيه جدة ليو هو خمس كلمات: ((إش فايز، دو كومست فايدر)) – ’’أنا أعرف أنك ستعود‘‘.
أن تبقى حيا هو، بأي حال، شيء معقد وأحيانا فظيع. كان ليو تخلى عن عالم، أولئك الذين تركهم فيه لا يمكنهم أن يحزروه، ولا يمكنهم أيضا إدراك كربه، انفصاله وغضبه حين يعود إلى البيت بعد خمس سنوات. في رواية "بلاد البرقوق الأخضر"، يرمي جورج نفسه من النافذة العلوية لفندق ترانزيت، بعد ستة أسابيع على هجرته من رومانيا إلى فرانكفورت. أو ربما دفعه احدهم. مهما يكن من أمر، حلم الهروب يتحوّل وهما. في "ملاك الجوع"، حادثة رجوع ليو من المعسكر هي ((ضربة حظ أعرج)) و((ذروة البقاء على قيد الحياة التي لا تعمل سوى على إطالة اللعنة)). هو ليس حرا، وهو يعرف ذلك. سرد حكايته في كل تفاصيلها المعقدة والرهيبة هو ربما الشيء الوحيد الذي يبعث فيه الحياة.
التفاصيل في الرواية هي غير عادية، وتدين ميللر بالفضل إلى باستيور بمعرفتها عن حياة المعسكر اليومية. مع هذا، فإن جوهرية رؤية الرواية هي شيء تدين به ميللر لمخيلتها فقط. صورتها عن كاتي سنتري، ((البلهاء منذ الولادة)) ولها قامة طفل، هي غامرة في قوتها المسكونة بالأرواح. كاتي هي في المعسكر لأن شخصا ما استبدل اسمها باسم آخر في القائمة، أو ربما بدافع السادية لا غير. إنها لا تقوى على العمل، أو لا تفهم ((معنى كوتا [نصيب]، أو أوامر، أو عقاب)). بدلا من ذلك، هي ترفرف بذراعيها وتهدل مثل حمامة، أو تجلس على كثيب نمل لتصنع قفازا من نمال. بشكل حاسم، لا يمكن لملاك الجوع أن يتسلق داخل عقل كاتي ويدمره، لأنها أصلا في عالم آخر.
هذه رواية رائعة، كئيبة ومطهِّرة معا. قد يكون ليو شعر بأنه في بيته ثانية، لكن في داخله (( يتمدد المعسكر بغير انقطاع، أكبر فأكبر، من صُدْغي الأيسر الى الأيمن)).