(الثاني)
إن الإشارات المتوالية في "لسان العرب" بشأن الصنم، أي التمثال، مفيدة وتحيل إلى مرجعيات ساميّة قديمة. أولاً الإشارة إلى أن كلمة "صنم" قد تكون تعريباً لـ "شَمَنْ"، وثانياً أن أصل الصنم والصنمة هو "صَلَمة" باللام.
قد يوجد في استعادة شَمَن تذكارٌ بعيد للإله الكنعاني الفينيقي، ولاحقاً القرطاجنيّ،، أشمون Eschmoun الذي هو من جيل بعل (اسمه أيضا أشمون- بعل) المتحدّر بدوره من جيل أبناء إيل. وكان معبودا في مدينة صيدا.
إذا لم يتعلق شَمَن بأشمون فلعله مرتبط بأحد الأرباب السوريين الذين نجد في أسمائهم المقطع الساميّ (شما) أي (سماء): رب السماء أو القاطن في السماء.
من المعروف أن مفردة الصنم، تُلفظ بالأكادية صلم، صلامو (alāmu(m). ويبدو أن السومرية قد استعارته من الأكادية القديمة، وليس العكس، بالصيغة المحوّرة (آلان alan وآلام alam) ، فهو مقطع من الكلمة الأكادية صا-الـ -مو-ام (şa-al-mu-um). وهو ذاته صلمslm في البابلية والآشورية والأوغاريتية واليمنية الجنوبية والتدمرية ولغة البتراء والحضر (صلمت) والآرامية (صلم وصلمه) ، وربما العبرية، وغير ذلك من اللغات السامية، ويعني تمثال أو صورة، كليهما حسب السياق.
بقيت هذه التذكارات للمفردات القديمة محفوظة في الذاكرة العربية، المحفوظة في لسان العرب، من دون قدرة على تقديم تفسير فيلولوجي لها. ويبدو الأمر مدهشاً بعض الشيء إذا أخذنا سياق التطوّر المعرفيّ بنظر الاعتبار.
إن مثل تماثيل بعل المُحطَّمة في الجزيرة العربية في نهاية القرن السادس للميلاد، دفعت بعض اللغويون القدامى إلى القول بوجود رب اسمه "إيل". لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى أنه كان الرب الأعلى في البانثيون الرافدينيّ في جميع اللغات السامية تقريباً. ففي اللسان: "والإِل: الله عز وجل، بالكسر". ويذكر ابن منظور أن "الإِل يعني الربوبـية". وينقل عن ابن الكلبـي: "كل اسم فـي العرب آخره إِلّ أَو إِيل فهو مضاف إِلـى الله عز وجل كَشُرَحْبِـيل وشَرَاحيل وشِهْمِيل، وهو كقولك عبد الله وعبـيد الله". هنا ثمة تلمُّسٌ حدسيّ ممتّدَح من ابن الكلبي فلم يكن يعرف اللغات السامية القديمة، ولم يكن لعلم الآثار من وجود.
لقد ظلت مفردة بَعْل لصيقة، في المقام الأول، بالأَرض المرتفعة التي لا يصيبها مطر، أو لا يَصِلها سَيْح ولا سيل، إِلا مرة واحدة في السنة. وهو ما يُقال اليوم في بلاد الشام وتونس: سقيٌ بعليّ. ثم ارتبطت بالزوج والفحل من النخيل، وكل سيد أو كهل حكيم على قومه أو في داره. لكن كان لها نصيب من التاريخ النحتي المبتسَر في الأدبيات العربية، رغم أن ابن الكلبي في كتابه يسهو عنها. ففي اللسان أن البَعْل هو الصنم مَعْموماً به، مع إضافاته الخرافية القائلة إنه كان لقوم النبيّين يونس أو إِلياس. كان معروفاً أنه تمثال من ذهب يعبدونه. وفي المصادر أنه كان تمثالاً مصنوعاً من الحجر ومطلياً بالذهب. اسمه يتكون من مقطعين "بع" و"إيل"، الأولى تعني المطر وإيل تعنى إله. من بع طلعت مفردة البَعاع في اللسان: ثِقَل السحاب من الماء. وإذنْ فهو إله المطر والخصوبة. وقد ورد ذكره في القرآن: "أتدعون بعلا وتذورن أحسن الخالقين". واسمه يتشابه بغرابة مع اسم هُبَل الشهيرالذي يقول عنه ابن الكلبي: "كانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها. وكان أعظمها عندهم هبل، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يداً من ذهبٍ".
ولا أظن هُبَل مشتق من الفعل هَبَل أي ثكل، بدليل الضمّة في هائه، بل من بَعل. وأعتقد أنه يتكوّن من مقطعين: هـ + بل. الهاء تفيد أداة تعريف في العديد من اللغات الساميّة، و(بل) هي بعل منطوقة بحذف العين، لنكون أمام "الـ + إيل" من جديد: (هالبعل) كما يمكن أن نقول في عامياتنا.