(1) تختزل القيادات السياسية أزمة البلاد، منذ تفاقمِها، بهدف تحديد ولاية رئيس مجلس الوزراء بولايتين لا ثالث لهما. وفي مجرى صراعاتها لتحقيق هذا الهدف الذي تعتبره الأساس المكين لبناء الدولة الديمقراطية، تتناسى أن هذه الدولة المفترضة لا مؤسسات لها،
فخري كريم
(1)
تختزل القيادات السياسية أزمة البلاد، منذ تفاقمِها، بهدف تحديد ولاية رئيس مجلس الوزراء بولايتين لا ثالث لهما. وفي مجرى صراعاتها لتحقيق هذا الهدف الذي تعتبره الأساس المكين لبناء الدولة الديمقراطية، تتناسى أن هذه الدولة المفترضة لا مؤسسات لها، وان المؤسسات القائمة في أغلبيتها لا قوانين وأنظمة تستند إليها، وان قوانين "مجلس قيادة الثورة" البعثي في أغلب حالات الفراغ التشريعي هي المعتمدة في ادارة الدولة واخطر مؤسساتها المتمثلة بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والمخابراتية.
ولأن دولتنا افتراضية، ولأن ديمقراطيتنا هي الأخرى تبحث عن هويتها بين أنقاض هذه الدولة، فان الأطراف المتصارعة تلعب في المساحات المفتوحة التي لا تفضي إلى تحويل ما هو افتراضي إلى واقع معاش في الحياة السياسية العراقية.
والمؤسف إن حالات التجاذب والمناكفة الجارية في البرلمان والحكومة حول سبل الخروج من الأزمة القائمة، لا تقترب في معالجاتها من جوهر الإشكاليات المسببة للازمة، بل عند بعض مظاهرها، وتكاد أحياناً تبدو كما لو أنها معنية بتحديد حراكها في ذات الإطار السياسي الذي كان وما يزال أسّ جميع الأزمات التي مرت بها البلاد منذ تأطير العملية السياسية بما عرف مذاك بالمحاصصة الطائفية.
المفردات المتداولة بين القوى المتصارعة والبدائل المقدَمَة لتفكيك الأزمة واللغة والشعارات المطروحة لمواجهة التفرد والتسلط والطائفية، ليست في واقع الحال سوى إعادة إنتاجٍ لها من موقع طائفي مقابل، مما يؤدي إلى مزيدٍ من الاستقطاب والتوتر والى استنفار طائفي وتوسيع الهوة بين القوى الوطنية من كل الطوائف المعنية بالتغيير الديمقراطي لصالح إجراء انعطافة جذرية في الحياة السياسية على قاعدة الدولة المدنية والمواطنة المتساوية.
(2)
وإذا كان هذا هو حال القيادات السياسية المتصارعة في إطار المحاصصة الطائفية وما تؤمنه من مواقع النفوذ والامتيازات، فإن الحركات الشعبية الاحتجاجية شكلت خرقاً كان المؤمل ان يضغط باتجاه تعديل مسارات الصراع، من حصر الخلاف والمطالب بالقضايا الفئوية الضيقة وطابعها الطائفي إلى التركيز على تحرير العملية الديمقراطية من العناصر المعيقة لها، ودفعها باتجاه الانفراد والهيمنة وتكريس السياسة الطائفية وحكم الفرد والحزب الواحد.
لقد اكتسبت المظاهرات الاحتجاجية في المناطق الغربية ونينوى والمناطق الاخرى المعروفة بطبيعتها التكوينية المذهبية السنية، تعاطفاً واسعاً من اوساط سياسية وشعبية في الجنوب والوسط، ونالت مطالبها العادلة الدعم والتأييد منها وكذلك من المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف. وجرى في اطار هذا التفهم والدعم تنبيه القيادات السياسية والميدانية إلى المظاهر السلبية التي برزت في المظاهرات، سواء من خلال الشعارات الطائفية التي رفعت فيها أو الأعلام البعثية التي ارتفعت في أجوائها، الى جانب شبهة مشاركة بعثيين وتكفيريين متسللين من سورية وبلدان اخرى، وتحريضهم من اجل تغيير طبيعة التظاهرات وشعاراتها ومطالبها، ومن شأن نجاح مسعاهم المشبوه هذا عزل الحركة الاحتجاجية والمطلبية عن حاضنتها الوطنية الديمقراطية، والإضرار بالوحدة الوطنية وإعاقة معالجة الخلل في النظام الديمقراطي القائم.
(3)
إن الاستمرار في التأكيد على شعار إلغاء قانون المساءلة والعدالة يشكل استفزازاً لملايين العراقيين الذين ذاقوا الأمرّين في ظل نظام البعث الاستبدادي. وهو يثير قلقهم من النوايا المبيتة من قبل بعض المغرضين لإعادة الاعتبار للبعث ونهجه المعادي للديمقراطية، خصوصاً إن هذا القانون يختص بالتعامل مع الكوادر القيادية في حزب البعث، وليس مع المنتسبين إليه بذرائع وأسباب مختلفة، ويستهدف الحيلولة دون تسللهم الى مواقع الدولة الحساسة وأجهزتها السيادية، وتوظيفهم في القيادات الامنية والمخابرتية مما قد يؤدي الى تقويض عملية البناء الديمقراطي وتخريب مساراتها وآلياتها والحط من مبادئها وقيمها، كما أصبح عليه الحال الآن نتيجة استثناءات المالكي لرموز بارزة من المشمولين بالاجتثاث وتعيينهم على رأس الأجهزة الأمنية والمخابراتية وقيادات الفرق العسكرية.
صحيح ان القانون طُبّق بمكيالين وأُسيء استخدامه بدوافع "كسبٍ غير مشروع" من قبل رأس دولة القانون الذي اغرق الدولة ومراكز حساسة كثيرة فيها بمن يشملهم القانون. وكان على المتظاهرين، في مواجهة هذه الظاهرة، إثارة هذا الخرق الفاضح للقانون والدستور والمطالبة بتصفية مظاهرها وإعادة النظر في الاستثناءات وإلزام السلطة القضائية والتشريعية بمقاضاته على هذا التجاوز. كما يظل مشروعاً الدعوة لإنصاف من طُبقَ بحقهم الاجتثاث كيدياً وإعادة الاعتبار لهم وتعويضهم عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بهم.
ويُساق نفس التحفظ على شعار إلغاء المادة "٤ إرهاب" اذ ينبغي العزوف عن اشتراط إلغائه مع استمرار ظاهرة الإرهاب البعثي والتكفيري، وتركيز المطالبة بتدقيقه وتعديله بالصيغة التي تحول دون تطبيقه كيفياً وكيدياً وجعله وسيلة ارتزاقٍ ومصدر رشىً للأمنيين والعسكريين الفاسدين، ووضع ضوابط قانونية مُحْكَمة بشأن حيثيات الاعتقال والتحقيق ومراعاة حقوق الإنسان في أساليب تنفيذهما والمدة الأقصى للبقاء رهن التوقيف لاستكمال الإجراءات القضائية الخاصة بالتحقيق، مع الغاء أسلوب الوشايات الكيدية المرتبطة بشبح المخبر السري.
وفي هذا السياق لا بد من إقرار عفو عام، لا يشمل بأي حال من الأحوال، من تثبت عليه وفقاً لمعايير العدالة والقانون، التورط في العمليات الإرهابية. على أن تتولى الإشراف على الفرز بين المتورطين والأبرياء، لجانٌ قضائية مستقلة ومعروفة بالنزاهة وبإشراف من ممثلي بعثة الأمم المتحدة في العراق.
(4)
ويقتضي الإنصاف ووضع الأمور في نصابها الصحيح، التصدي للادعاءات المغالية التي تسعى لتشويه الحركات الاحتجاجية بوجه عام، وإضفاء الطابع الطائفي الفئوي الضيق عليها، بغية عزلها والتضييق عليها، والتقليل من تأثيرها على القطاعات الشعبية في الجنوب والوسط، وبتحديد أكثر، وضعها في تعارضٍ وتقاطعٍ مع تطلعات الأوساط الشيعية المرتابة من الحركات التي يُوحى لهذه الأوساط، بأنها تستهدف "حكمهم" و"تقويض" نفوذهم في السلطة "وقضم" ما نص عليه الدستور من حقوق وثوابت في هذا الإطار.
وإشاعة مثل هذه المخاوف، تتغذى على مصدرين يتكئان على بعضهما البعض، دولة القانون وحزب رئيس مجلس الوزراء وحاشيته المستفيدة من جانب، والشعارات والمطالب والتوجهات المتطرفة للحركات الاحتجاجية والمظاهرات المطلبية. وكلما اتخذ مسار المعارضة ومظاهرها طابعاً يتعارض مع مبنى العملية السياسية الديمقراطية وهدف بناء الدولة المدنية التعددية التداولية الاتحادية، تزايدت الفرص أمام الطرف المقابل المستفيد من ذلك لتشديد قبضته وتحكمه وانفراده، وكسب تعاطف قاعدة مترددة مجبولة بحكم الظلم التاريخي على الشك بالآخر والتوجس من نواياه.
وليس أشد ضرراً على النشاط الشعبي ومطالبه وارادته في كسر احتكار السلطة لطرف واحد او حزب متسلط او مشروع مستبدٍ وطاغية، في مثل ظروفنا المأزومة المتميزة بالانعدام شبه المطلق للثقة بين الفرقاء والمكونات، من تصعيد الشحن الطائفي واضفاء اجوائه ومضامينه على المطالب والاهداف المعلنة. ان مثل هذا النزوع، انما يعزز الاستقطاب الطائفي والفئوي المقابل، ويزكي النهج المغامر لرأس السلطة ويخدم توجهاته لتعميق الأوهام التي يشيعها أنصاره في أوساط شيعية واسعة، يدلل من خلالها بصواب سياسته التي تشكل مصدراً في مواجهة "التآمر" المشبوه. وفي حُمّى الاستقطاب الطائفي وتوتراتها، تضيع المسؤولية عن المسبب في ما نشهده من تدهور للأوضاع في البلاد، ومن تحديات ومخاطر ومنحدرٍ مفتوحٍ على كل الاحتمالات.
(5)
إن بعض المظاهر السلبية التي يجري تداولها حول مظاهرات نينوى، بزعم تزايد نفوذ أوساط متطرفة عليها، يتطلب تطويقها من قبل القيادات الوطنية الحكيمة النافذة فيها، بنفيها والعمل على فرز وعزل العناصر البعثية والتكفيرية المتسللة إليها عن قوى الحراك الشعبي الحامل لِلهَمّ الوطني، والحريص على اخضاع الاحتجاج لخدمة إصلاح وتصحيح مسارات العملية الديمقراطية وضبط إيقاعاتها، بما يؤدي في المحصلة النهائية إلى معافاة الحياة السياسية ومعالجة الخلل الفاضح في إدارة الدولة والسلطة السياسية.
ودون التعامل بوعيٍ وحكمة مع هذه المظاهر وتداعياتها، فان القوى المتربصة بالحراك الشعبي، ستسعى للتعبئة ضدها، وإثارة الشبهات حول مقاصدها النبيلة.
لقد اساء ظهور المطلوب عزت الدوري مع بداية التظاهرات في الأنبار إلى القائمين على الحركة الاحتجاجية، وهذا كان المطلوب من ظهوره القصدي. كما ضاعفت هذه الإساءة، الأعلام والشعارات التي ارتبطت بذلك الظهور.
ومثل هذه المظاهر السلبية تدفع إلى خلط الأوراق والاصطياد في الماء العكر، وهو ما تريده أوساط حكومية متنفذة لإجهاض أي نزعة احتجاجية شعبية تجبرها على التراجع عن ممارساتها اللادستورية، وأساليبها البوليسية في التعامل مع الرأي الآخر.
(6)
رغم التناقض الذي ينطوي عليه المشهد السياسي والتباينات في التصور حول سبل الخروج من الازمة الخانقة التي نواجهها والاصطفاف والتحشيد الطائفي المتقابل، فان البلاد بغض النظر عن طبيعة مكوناتها المناطقية، في الغربية او الجنوب والوسط، تتحرك على أرضية سياسية ومطلبية مشتركة. وما يجمع العراقيين جميعا، بتنوعاتهم المذهبية والعرقية والفكرية والسياسية، هو الدفاع عن النظام الديمقراطي الذي يريد السلطان اغتياله والسطو عليه. وما لم تتركز الجهود حول هذا الهدف بالاستناد إلى الدستور وثوابته والقوانين المشرعة المجسدة لمبادئه وجوهر قيمه، فان الاستعصاء المتحكم في الوضع سيظل هو وليس الإرادة الشعبية المشتركة، سيد الموقف.
ان التشبث بالتخندق الطائفي، يسد باب الأمل أمام الجميع، وخلافاً لتصور البعض من اعتباره مصدر قوة، فهو ليس إلا خيارَ ضعفٍ، ينم عن قصور في الوعي، وقراءة مجتزأة لواقعٍ بالغ التعقيد، متشابكٍ، مفتوح على أبواب جهنم. وتزداد قتامة اللوحة المعقدة للمشهد السياسي بتداعياته وخياراته الطائفية، إذا استقوى الصراع بأبعاده هذه، بقوىً وجهاتٍ وأطرافٍ متعارضة كلياً مع الخيار الديمقراطي، وما يستلزمه من إرادة التنوع المجتمعي.
وبعيداً عن الاصطفاف الطائفي والمناطقي هناك طائفة واسعة من الهموم والمطالب التي يجمعُ عليها العراقيون، وليس في الأفق سبيلٌ لفرض استجابة السلطان إليها، بغير وحدتهم ورص صفوفهم وتوحيد كلمتهم.
ان الطوائف والمكونات كلها ضحية سوء إدارة الدولة والحكومة، والتصدي لها ليس امتيازاً طائفياً، ولا يعالج بتخندقاته واصطفافاته المربكة. وبالاستناد الى اصطفافٍ عابرٍ للطوائف والمناطق يمكن فقط ردع التجاوزات على الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتصدي للفشل الحكومي وإخفاقه في تصفية الإرهاب والفوضى واللا استقرار والتعدي على الحريات، ووضع حدٍ لاستشراء الفساد والنهب والبطالة وغياب الكهرباء والماء الصالح للشرب والمجاري الصحية والخدمات بكل مفرداتها الضرورية.
إن العراقيين بوحدة مكوناتهم وتشاركهم يستطيعون استكمال بناء دولتهم المدنية الديمقراطية، وخلاف ذلك سيكون كل شيء في مهب الريح..!
جميع التعليقات 2
سالم بغدادي
تعليقي على مقال الاستاذ فخري كريم: يجب ان نعني ان هذا الحراك هو حراك شعبي فيه من العفويه ما يميزه عن باقي التحركات التي نشهدها والمدفوعه باغراض سياسيه بحته والتي عاده ما توجهها جهه معينه بذاتها لاغراضها الخاصه. من هنا فانه سنشهد الكثير من الخروقات ومحاولا
د. مصطفى ألعيسى باريس
إن ألتظاهرات حق شرعي من حقوق ألإنسان , وعلينا أن نرجع لفهم ... بسيكولوجية... ألجماهير ألمتظاهرة حتى نهم ما يجري....