اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > لماذا حُطّم تمثالا طه حسين والمعري؟

لماذا حُطّم تمثالا طه حسين والمعري؟

نشر في: 22 فبراير, 2013: 08:00 م

حدثان متشابهان وقعا في مصر وسوريا قبل أيام، وكلاهما يتعلقان بالتماثيل: الأول: اقتلاع تمثال طه حسين الرأسي من فوق قاعدته الهرمية بمدينة المنيا القريبة من مسقط رأسه، ومحاولة تغطية تمثال أم كلثوم بنقاب بمدينة المنصورة. والثاني الإطاحة برأس تمثال أبي العلاء المعري وإسقاطه من قاعدته في بلدة معرة النعمان في شمال سوريا.

في العراق، شهدنا منذ بداية العهد الجمهوري حتى وقت قريب جداً، أحداثاً مشابهة.. ما الذي يدفع بعض السلفيين وغير السلفيين في العالم العربي إلى صب جام غضبهم على الأعمال النحتية المكرّسة لمبدعين، بل سياسيين، لم يمارسوا عنفاً ضدّ أحد؟. إنهم، كما يبدو لنا، يتوجّسون خيفة من القيمة الرمزية العليا للفن، ولفن النحت الذي "يجسّد" و"يحاكي" بطريقة واقعية تلك الشخصيات الرفيعة ويسهم بالتالي بتأبيدها في الضمير الثقافي. إن تلك المحاكاة وذلك التأبيد هو حوار صامت بليغ مع مناهضي الجمال والعقل الحر والرأي الآخر وكارهي الغناء والحرية الوجودية. لو أننا فهمنا بأن تحطيم تماثيل الدكتاتوريين، يمتلك مشروعيته، انطلاقاً من مشاعر الألم وتأثيرها الممكن على الأجيال اللاحقة، وبصفته رفضاً للنماذج الإنسانية والأخلاقية التي قدّموها، فإننا لا نفهم اقتلاع تمثال طه حسين ولا أبي العلاء ولا "تنقيب" أم كلثوم، وكلها لا تسبّب أي مشاعر مؤلمة ولا تقدّم أي تأثير مُضِرّ بمصالح الجمهور. في بعض البلدان الاشتراكية السابقة لم تحَطّم تماثيل لينين ولا رموز الشيوعية، وجرى الاحتفاظ ببعضها في المتاحف، وأجد في ذلك عين العقل. فلقد تأطرت في سياق تاريخي من طرف المسؤولين عن المتاحف، عبر التعليقات الموضوعة جوارها، وقُدّمت بصفتها مرحلة "صعبة" من التاريخ المحليّ. كنتُ أتمنى أن يفكّر أحد بمشروع متحفٍ مماثِل يتعلق "بتاريخ القمع وصورة الطاغية في تاريخ العراق الحديث"، والعرب استطراداً، يجمع صور الطاغية وحتى تماثيله لكن مؤطرة بالإطار المذكور نفسه.

كنت أقرأ خبر الحدثين المتعلقين بتماثيل طه حسين وأم كلثوم والمعري، أثناء كتابتي أعمدتي الثلاثة السابقة في (المدى)، وكلها كانت تتعلق بفكرة التماثيل والتمثيل كما وردت في "لسان العرب". هذه مصادفة تدفعني للتفكير الآن أن التوجُّس من العمل النحتيّ، ثلاثيّ الأبعاد، ما فتئ هاجساً يورّق بعض الثقافة العربية. فإذا كان الخوف من "الشرك" قد دفع أوائل المؤمنين إلى عملية تحطيم واسعة كاسحة لتماثيل الجزيرة العربية (وأظنّ أنها شملتْ أعمالاً نحتية لم تكن تدخل في السياق الدينيّ ولا في إطار المعبودات المقدّسة)، فإن التحطيم الحالي في مصر وسوريا، والعراق قبلهما، ينطلق من الهاجس نفسه: الخوف من "الشرك" بالإيمان المعاصر للسلفيين والمتزمتين، وإدماج عناصر غير مرغوبة في صلبه. وهنا نرى أنهم يَسْبَحَون ضد تيّار التطوُّر التأريخي. بعد أربعة عشر قرناً من عملية تحطيم التماثيل الذي انطلق من مكة والذي قد يكون مفهوماً في سياق ما، عاودت التماثيل الظهور في العالم العربي – الإسلامي عبر الفن الحديث منذ القرن التاسع عشر، من دون أن تثير مشكلات عقائدية عويصة. فلقد صار الحديث عن الشرك حديثاً غير منطقيّ البتة بعد كل هذه القرون. وهنا أتذكر حواري غير المنشور مع الراحل محمد غني حكمت الذي أخبرني أن رجلاً من الكاظمية قدّم الاعتراض نفسه في أربعينات- خمسينات القرن الماضي عن أعماله، من دون جدوى. هؤلاء السلفيون يعاودون خطاباً مماثلاً تجاوزه الزمن متشبثين بالهاجس نفسه.

يشير فعل التحطيم والتشويه الحالي للتماثيل في مصر وسوريا إن للفن قيمة تخيف بعض الأطراف الفاعلة في الشارع العربي اليوم. إنها تتخذ من التماثيل الموقف القديم نفسه، لكنها تُضْمِر هذا الموقف بنوع من "التقية" التي تشترك بها جماعات كثيرة متفارقة العقائد. كما أن الإطاحة خاصة برأسي تمثالي طه حسين والمعري، تشكل دليلاً على هذا المُضْمَر السلفيّ: أن بعضهم يسعى إلى تحطيم الوعي الفاعل في هذا الرأس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram