TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حي السلطة

حي السلطة

نشر في: 10 مارس, 2013: 08:00 م

كانت كرادة مريم منطقة سكنية حتى وقت قريب. وبالتدريج تحولت الى منطقة مغلقة للسلطة. صحيح ان السلطة لم تكن غائبة عنها. فعلى مقربة من مدخلها القريب من جسر الجمهورية يقع مبنى المجلس الوطني. وعند نهايتها القريبة من الجسر المعلق يقع القصر الجمهوري. ولكن المنطقة ظلت تعيش بأمن وسلام بين القصرين.
وقد سمعت من بعض سكانها وشهدت بعيني بعض تحولاتها. على عهد عبد الرحمن عارف كان أطفال محلة العباسية المجاورة للمجلس الوطني يلعبون داخل حديقته. مع مجيء البعثيين عام 1968 مُنع الأطفال من ذلك. وكان السيد النائب، صدام حسين، قد اتخذ من المجلس مقرا له. وكنتُ أمرُّ بجانب سياج المجلس في طريقي الى العباسية، حيث كان لدي أصدقاء يسكنون فيها منذ الأزل. ولم تكن هناك حراسة على بابه الرئيسي.
ومر وقت فإذا بهم يمنعون المسير بالقرب من سياجه. كانت هناك حديقة أمامه. وقد أبلغت بأن أغير طريقي لأسير على رصيف الشارع العام الذي تنتهي عنده الحديقة. لابأس. بعد فترة مُنعت من استخدام ذلك الرصيف، ونُقلت الى الرصيف المقابل. وبدأت تظهر أمام الباب الرئيسي حراسات عسكرية وأحيانا أفراد مدنيون تبدو عليهم "قوة الشكيمة".
وذات ليلة كنتُ مع صديق أسير على الرصيف المعتاد، وإذا برجال أمن يدفعوننا الى ساحة ترابية بجانب الرصيف. قالوا لنا أن السيد النائب في الطريق. وتلك "المتربة" كانت آخر عهدي بكرادة مريم. لكن أصدقائي ظلوا يروون أخبارها علي. شمل "الكص" منطقة العباسية، وبقية المناطق السكنية الواقعة بين القصرين، وتفرق أهاليها أيادي سبأ في أحياء بغداد الأخرى. أغلقت كرادة مريم أمام الأهالي وتحولت الى منطقة خالصة للسلطة، الى مقر للسلطة وأعوانها.
كان البعثيون مستعجلين. فكل هذه التغييرات وقعت خلال مدة أربعة أعوام بعد مجيئهم. وكانوا طماعين. فلم يكتفوا بسلطة تحكم من قصرين فقط، وانما وسعوا مقر سلطتهم ليصبح بحجم منطقة كرادة مريم. وداخل المنطقة نشب صراع مديد بين سيد المجلس الوطني وبين سيد القصر الجمهوري. حتى ان الأول نصب لاقطات يسمع منها كل ما يقول الثاني. وكان أحمد حسن البكر في المرحلة الأخيرة من حكمه يطلب من ضيفه، اذا شاء أن يقول كلاما لايريد أن يُسمع، أن يتمشى معه في الحديقة تجنبا للاقطات الصوت.
ثم نطَّ السيد النائب ذات يوم على كرسي صاحبه وأصبح الحاكم المطلق. وكان شَرَهُ السلطة يزداد عنده على مر الأيام ولا ينقص. فلم يكتف بالمقر الحكومي الأكبر في العالم، وانما أراد بث سلطته في ارض وهواء البلد كله. وفعل. لقد تملكته "لعبة السلطة"، فنمت على يديه وتضخمت، وبالغ في الاستمتاع بها الى درجة السفه. وتلك سيرة نادرا ما ينجو منها المحرومون عندما يتملكون ويسودون.
ولقد قضى الرجل غير مأسوف عليه، لكن ملامح من سيرته باقية. فلا زال مقر السلطة، الذي صار اسمه "المنطقة الخضراء"، هو الأكبر من نوعه في العالم، ولازال معزولا وممنوعا على الأهالي، ولازال قبيحا لكن بزيادة مع إحاطته بصبّات الكونكريت، ولازال يضخ دماؤه في شوارع بغداد على شكل سيطرات ونقاط تفتيش لها أول دون آخِر، ولنفس الوظيفة: بث السلطة في الأرض والهواء. اللعبة إذن تتكرر. والمشكلة فقط هي ان السلطة عندما تتحول الى لعبة تُصيب الدولة بالضربة القاضية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

صحة الأنبار تُغلق مطعمين وتتلف مواد غذائية في هيت

صادرات الصين إلى أميركا تهبط بأعلى وتيرة منذ 2020

حرارة أربعينية في محافظات وسط العراق وجنوبه مصحوبة بغبار

شفاء الـ214 حالة المصابة بالتسمم في الفلوجة

"إسرائيل": تأكدنا من التعرف على جثة محمد السنوار

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

"دربوا طلاب الدكتوراه ليكونوا مفكرين لا مجرد متخصصين"

العمود الثامن: من ترامب إلى المالكي

العمود الثامن: ماذا فعلت بنا الديمقراطية ؟!

العمود الثامن: سفير "كامل الدسم"

العباءة الزينبية و"بلاغة السوق" في زمن التديّن السلطوي

العمود الثامن: من ترامب إلى المالكي

 علي حسين اتابع مما يكتبه الدكتور عماد عبد اللطيف سالم، سواء المقالات التي ينشرها على صفحته في موقع الفيسبوك، او التي تنشرها له بعض المواقع الاعلامية، قبل ايام نشر الدكتور عبد اللطيف مقالا...
علي حسين

كلاكيت: سميحة أيوب سينمائيا

 علاء المفرجي بالرغم من الصفة التي خٌلعت عن الفنانة الراحلة سميحة أيوب وهي (سيدة المسرح العربي)، لحضورها الدائم والمتألق على خشبة المسرح، إلا ان أن أيوب كانت لها حصة كبيرة في السينما تجاوزت...
علاء المفرجي

متى يصبح العراق أولاً؟

عصام الياسري كلما تظهر على السطح ملفات السيادة الوطنية العراقية للنقاش، من خور عبد الله جنوبا إلى آبار النفط على حدود إيران شرقا، يجد العراقي نفسه أمام مشهد يتكرر بتفاصيله الموجعة: تنازلات تمرر بصمت...
عصام الياسري

العباءة الزينبية و"بلاغة السوق" في زمن التديّن السلطوي

سهام يوسف علي في خضم هذا الركام الذي نعيشه، خرجت علينا رئيسة لجنة البيئة (!) في مجلس محافظة بغداد بمقترح لاعتماد "العباءة الزينبية" زيًا رسميًا في دوائر الدولة للموظفات. لا نعرف بالضبط أي علاقة...
سهام يوسف علي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram