-2-
لم تحضر بغداد في السينما، كبطولة مكان .. او كموضوع متكامل.. فبعد أكثر من ستة عقود وأكثر من مئة فيلم بقليل، لم تحضَ بغداد كمكان في الأفلام العراقية بالأهمية التي نتمنى واقتصر حضورها كديكور خلفي يمكن الاستغناء عنه بمكان آخر.. بمعنى انه كمكان لم يتداخل وموضع الفيلم.. مثلما لم تنفعل الشخصيات والأحداث بالمكان.. الذي يمارس بدوره تأثيراً بوصفه شخصية لها أبعادها وامتداداتها الاجتماعية والثقافية، بالشخصية أو الحدث.
وباستعراض سريع للأفلام العراقية سنجد انه حتى هذا الحضور السلبي بمعنى غير المؤثر لم تتوافر عليه الغالبية العظمى من الأفلام العراقية، حتى تلك التي تدور أحداثها في هذه المدينة..
وكان يمكن لبغداد كمكان ان تأخذ حقها السينمائي إن صحت التسمية بالطريقة التي خضعت بها روما لموشور فيلليني من خلال عدد من أفلامه وربما في أكثر أفلامه.. حيث ينجلي التاريخ تارة، والعلاقات الاجتماعية تارة أخرى.. بل وحتى جغرافية المدينة وشواخصها التاريخية..
او كما أخذت نيويورك من اهتمام مخرج عبقري آخر هو سكورسيزي.. فمعه ذهبنا الى ما قبل أكثر من مئتي عام عندما كانت المدينة (أعني هنا نيويورك) نهباً لعصابات القتل والتناحر المذهبي والعرفي.. ومعه أيضا تجولنا في شوارعها الخلفية ووقفناه عند حاضنة الجرائم.. ومع الملل والأقوام القادمة من كل بقاع الأرض، فعايشنا في كيتواتها تقاليد وأصول وثقافات ومع سكورسيزي أتعبنا النظر الى الأعلى حيث الأبنية تخترق السحب وبالطريقة نفسها اصطحبنا وودي ألن في عالم هوليوود المدينة والنساء والشهرة وأيضا الدسائس.
ولكن لم ينل مخرج سينمائي شرف ان يحفر في تاريخ بغداد او يبرز سحنة أبنائها .. او يقف عند نسيجها الاجتماعي او يستنطق شواخصها او يوثـِّق لرموزها.
ونحن نتحدث هنا عن السينما الروائية، ذلك ان السينما الوثائقية حاولت الاقتراب من كل ما ذكرنا .. ولكنها لم تقنعنا جمالياً او فكرياً.. الا باستثناءات قليلة، وربما يحضرني هذا الاستثناء رائعة بسام الوردي ورياض قاسم (حكاية للمدى)، حيث شواكة كرخ بغداد رمز من رموزها الشامخة (يحيى جواد) وفي جردة سريعة لبعض الأفلام العراقية على امتداد تاريخ الفيلم العراقي، نستطيع ان نقف على حضور المدينة بشكل ديكوري كما أسلفنا.. فيلم (القاهرة- بغداد) الذي أخرجه أحمد بدرخان بإنتاج مشترك مع مصر صورت مشاهد قليلة منه في بغداد، لكننا في فيلم (مَن المسؤول) المنتج عام 1975 بتوقيع المخرج عبد الجبار توفيق ولي عن رواية للكاتب العراقي الرائد أدمون صبري نقف عند صورة جميلة لبغداد في عقد الخمسينات، تتجلى منها تفاصيل اجتماعية واقتصادية كثيرة.. والأمر ينطبق أيضا على فيلم (سعيد أفندي) للمخرج كاميران حسني .. واختار المخرج الراحل عبد الهادي مبارك تصوير اغلب مشاهد فيلمه (عروس الفرات) عام 1958 في مناطق مختلفة من بغداد..
لكننا مع فيلم (الجابي) للمخرج جعفر علي.. نتعرف على تفاصيل الحياة اليومية في بغداد الستينات، حيث نماذج بشرية مختلفة تلتقي في (باص) للنقل الداخلي.. وهو فيلم حاول التقاط صورة لشكل العلاقات خلال تلك الفترة..
وبسبب موضوع الرواية المعالجة، وهي رواية (5 أصوات) للروائي الكبير غائب طعمة فرمان، فان فيلمه (المنعطف) الذي أخرجه جعفر علي وكتب السيناريو والحوار له نجيب عربو مع الشاعر صادق الصائغ.. هو أكثر الأفلام العراقية التي تتجلى بها المدينة مكاناً وحدثاً.. فمن خلال الشخصيات الخمس في الفيلم نتعرف على الملامح السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمدينة.
نخلص الى إن بغداد لم تكن كمكان وحدث موضوعاً لفيلم عراقي على الطريقة التي استعرضنا بها أفلاماً لمدن حملت تواقيع مخرجين كبــار.
* الورقة التي قدمت في ندوة "بغداد في الدراسات النقدية