خلافاً لما تمناه اتجاه سياسي محليّ دينيّ، من تهميش، بل القضاء على الوعي التنويريّ، وخلافاً لأمنيات جهات ثقافية عربية بإقصاء المثقفين العراقيين من المشهد العربيّ، أو في الأقلّ تحويلهم إلى "كومبارس" لا قيمة له، تُثبت الثقافة العراقية التي تشتغل على هامش المؤسسة الرسمية الحالية، أنها أشدّ عوداً من جميع هذه التمنيات.
لقد انتقدنا جميعاً، بقسوة أحياناً، مظاهر الترهّل، والفوضى، والاستسهال، وغياب التقاليد، والأخوانيات، وتضخّم الذات، وتراجع دور النقابات الثقافية، وجميع العوالق المريرة التي علقت بالثقافة العراقية بسبب ثلاثة عقود من الصوت الواحد، ولم نمنح ما يكفي لرؤية النبيل والمعرفيّ فيها: حماس المثقفين الدائب، وفرة إصداراتهم الإبداعية والنقدية، هجومهم الأسبوعيّ على أعظم شارع للكتب في التاريخ العربيّ المعاصر، مواجهتهم اليومية للرعب، بشكليه العربيّ المسلّح والعراقيّ الميتافيزيقي غير المسلّح، تشعب علاقاتهم العربية والعالمية، حضورهم المعاند في أهمّ المنابر، تأسيسهم لدور نشر احترافية واعدة، تشبثهم الباخوسيّ بالحياة، تصاعد روح الطرفة في أشدّ الأوقات حلكة، الفاعلية المتزايدة لصحافتهم الأدبية واستقطابها للبعض من خيرة كتّاب البلد.
إن الشروط القاسية التي يعمل بها المثقفون العراقيون، في داخل البلد وخارجه، تضيف لذلك قيمة مضاعفة. لكن ذلك كله يجري بالأحرى خارج المؤسسة الرسمية، بإرادة جمهرة من المثقفين، في غالب الأحيان.
السؤال: لماذا تتسم ثقافة العراق بالحيوية خارج المؤسسة، بينما لا تنتج مؤسسات الدولة غالباً إلا الغث، المُعاد، بل الرجعيّ؟. ليس فقط بسبب هيمنة أيديولوجيا معروفة، ولا بسبب المحاصصات المخزية التي طالت الحقل الثقافي ووزارته نفسها، إنما لإدراك هذه الجمهرة أن الثقافة هي مشروع لا يزدهر إلا في أطُر شخصية ومشاريع فردية، بعيدة عن المحترفات المؤسساتية التي أثبتت، منذ تأسيس الدولة العربية الحديثة، أنها تشتغل فحسب ضمن برامج مرسومة سلفاً، فاشلة كما الخطط الخُمسية العتيدة.
الثقافة بطبعها لا تتقبل البرامج المتعسّفة، وهذه تلوي عنق الواقع، وتختار ما يلائمها منه، ظواهرَ وأشخاصاً، لكي تحقق أهداف السلطة، أي سلطة، دينية أو علمانية.
لا يتعلق الأمر بالحرية فقط، ورفض معاشرة الوجوه الكالحة التي جاءت إلى صالونات الثقافة دون امتلاكها ميزات معرفية، أو تواريخ عريقة (لا نطمح بالضرورة أن تكون على شاكلة أندريه مالرو وزير ثقافة ديغول)، أو حتى القدر الضروريّ من التسامح مع المخالفين بالرأي، إنما أيضاً من أجل تأسيس مثال عراقي جديد لمثقف لا يرتهن إلا لضميره.
تبدو مهمة الخروج عن مؤسسةٍ بتلك المواصفات، شاقة قليلاً على من اعتاد "الوظيفة" الحكومية، ويفكّر "بالراتب التقاعدي" رغم نواياه الطيبة، وهو يقوم بموازنةٍ صعبة أوصلته إلى حافة الشيزوفرينيا الثقافية، وفي أحسن الحالات إلى توزيع المجاملات بالمجان، في المناسبات العامة وعلى الانترنت. هذا البعض سيحسم أمره قريبا كلما اشتدّ ساعد المؤسسات الثقافية "غير الرسمية" النظيفة، وسيجد نفسه لصيقاً بها.
رغم العثرات وتراكم الإرث الرديء، لا يمكن للمراقب سوى أن يلاحظ أن ثقافة العراق تصير شيئا فشيئاً حيوية، بعيداً عن وزارتها. إنها تقدّم يومياً، منذ أن تأسست مؤسسة "المدى" غير الرسمية في دمشق، بدائل معقولة على كل صعيد: تنظيم المثقفين لأنفسهم ونشاطاتهم (حتى لو تطلب الأمر اللقاء على نهر دجلة) ومنشوراتهم وترجماتهم ومبادراتهم الشخصية وتدبير اختلافاتهم المزمنة، وما إلى ذلك. يتمّ الأمر بصعوبة وبطء، لكنه جارٍ، حتى أن لديّ الانطباع بأن المؤسسة الثقافية الرسمية هي التي تصير بالأحرى هامشية إزاء ذلك، رغم قدراتها المالية الضخمة.
لنقلها صُراحاً: إن مؤسسة الدولة الثقافية ليست قادرة في الشروط الموصوفة أن تكون رافعة للثقافة في البلد، إلا إذا امتلكت تصوّراً مختلفاً لمعنى الثقافة ودورها.