(1)
في الصحافة الأدبية وبعض المقدّمات المكتوبة للترجمات الروائية والشعرية، كما في بعض الأطاريح الجامعية، يرتبك المرء، في عصر الانترنت، من الاختلاط بين الاستشهاد وإعادة الصياغة والانتحال. لا يقع الفارق بين هذه المفاهيم الثلاثة على المستوى الأيطيقي والرفعة الأخلاقية فحسب، إنما أيضاً يمسّ مستوى الكتابة وأصالتها وقيمتها الفعلية.
سأستشهد بسطور قليلة، لتعريف هذه المفاهيم، بالمراجع المتوفرة على النت التي يمكن للجميع مثلي العودة إليها. فالاستشهاد أو الاقتباس هو العودة ونقل ما يقوله شخص آخر حرفياً، وعزوا النقل لمصدره الأصلي، من خلال استعمال علامتي التنصيص. أما إعادة الصياغة فتعني الاختصار والإيجاز بواسطة استعمال عبارات خاصة بالباحث نفسه، وليست موجودة في المصدر، شريطة الإشارة إلى المصدر، وليس تمويه القارئ والإيحاء له أن الكاتب يكتب أفكاره الخاصة، مُفِيْداً من عدم التنصيص. يعتبر الجامعيون اليوم وضع العبارات المعاد صياغتها بدون ذكر مصدرها نوعاً من السرقة. أخيراً يقع الانتحال أو السرقة الفكرية أو الأدبية حال ادّعاء شخص، صراحة أو ضمناً، بكتابة ما كتبه آخر، أو النقل مما كتبه آخرون كلياً أو جزئياً، بدون عزوٍ أو اعترافٍ مناسب، أي نحن باختصار أمام التدليس المعرّف قانونياً. تذكر موسوعة ويكيبيدا أن الانتحال هو خطأ أخلاقيّ ومدنيّ وتجاريّ، وجنائيّ قانونياً. إذا كان استنساخ مؤلف أو مبدع دون ذكره جوهر الانتحال، فأن الأخير هو أيضا وبنفس المستوى استلهام قويّ لنموذج موجود (فكرة كتاب، حبكة روائية، فكرة أصلية شخصية لمؤلف، قطعة موسيقية أو مقطع منها. الخ) نتعمّد أو نُهْمِل تعيينه. جرى تشبيه الانتحال غالباً بسرقة شيء غير مادي. الفارق في حالة السرقة بين الشيء المادي وغير المادي لا قيمة لها هنا.
ينبغي تمييز فكرة الانتحال، وهو الزعم أنك المؤلف الأصليّ لما هو في الحقيقة محض نسخة من عمل آخر، عن فكرة التزوير وهي الزعم بأن النسخة التي بين أيدينا إنما هي في الحقيقة عمل أصليّ، مثل مزوّري العطور على نحو أخطر في الحقل الأدبيّ والأكاديميّ. يميّز البعض بين الانتحال، و"التقليد المشبوه [لم أجد أفضل منها للمفردة démarquage] لعمل آخر حيث يخضع النص لتغييرات متنوعة من أجل تمويه المصدر".
في العديد من البحوث، نلاحظ غياب العلاقة الوثيقة بين سياق البحث والجملة المستشْهَد بها، كأن الاقتباس محض رقعة من غير نوع القماش الواقع العمل عليه، أو كأنها هنا لكي يُقال أن الكاتب استشهد بأحدٍ على كل حال، فاستوفى شروط البحث. كما أن الاستشهادات لا تبدو مستلة من مصادرها الأصلية، إنما من مصادر فرعية، بدورها مشكوك بأصولها، مع الزعم أن الباحث يقوم بنفسه بالعودة إلى المرجع المستشهَد به. لو حاول امرؤ تتبع آثار هذه الاستشهادات فلسوف تكون حصيلته مخيبة للآمال، فلا المراجع صحيحة ولا أرقام الصفحات دقيقة أو حتى موجودة أحياناً. وهذا وحده يقع في باب التدليس.
يختلط أحياناً الانتحال بإعادة الصياغة. سأتمثل بأطروحة أشرفتُ عليها، آسِفاً. كان قسم منها يُوْجِب العودة إلى الملحمة الهلالية، وبالتالي لا يستوجب الاستشهاد الحرفيّ الدقيق بالمصادر المنقول عنها، إنما بإعادة صياغة المعطيات المألوفة المعروفة عن الملحمة، وفي حالة وجود فكرة خاصة بالمؤلف كان من الواجب الاستشهاد بها بطبيعة الحال. لكن الباحث لم يكن يعيد الصياغة إنما ينقل حرفياً، وكلمة بكلمة، عن المصدر، الصفحات الطوال معتبراً أن هناك مشروعية له في ذلك، وعندما تواجهه أفكارٌ عَرَضِيّة للمؤلف الأصليّ، يصرّ الباحث على نقلها عازيا إياها لنفسه. لم يكن الباحث يقوم بإعادة الصياغة في حالة سرد وقائع الملحمة، ولا بالانتباه إلى الفارق بين سرد المؤلف للوقائع وتضمين المؤلف لأفكاره أحياناً، فكان "يأخذ" هذا وذاك كليهما بشهية ما بعدها من شهية. الأمثلة على ذلك كثيرة ومقلقة.
كم لدينا من ذلك في الصحافة الأدبية العربية، والمقدّمات المكتوبة للترجمات الروائية والشعرية؟.
الاستشهاد، إعادة الصياغة، الانتحال
[post-views]
نشر في: 26 إبريل, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...