(2)
أشرنا في العمود السابق إلى أن الاختلاط قويّ، في الصحافة ومقدّمات بعض الترجمات الشعرية والروائية وفي أروقة البحث الجامعيّ، بين الاستشهاد وإعادة الصياغة والانتحال. تأخذ ظاهرة الانتحال في الوسط الأكاديمي العربيّ بُعداً مقلقاً اليوم، وتظهر في أكاديميات الفنون الجميلة مثلاً، أثناء كتابة مباحث الجماليات والتصميم والديكور الداخلي وفي أطاريح الخط العربيّ، والفن الإسلاميّ، والفن عامة. إن الأمثلة كثيرة ولا نريد إلا الظاهرة.
ما هي وضعية الباحث المطالَب بكتابة أطروحةٍ للماجستير أو الدكتوراه؟. إنه ما يزال طالبا بعد، وبدلاً من أن يتلقى تكوينه عبر حصص مخصّصة على أيدي أساتذته (إذا افترضنا أنه لن يقرأ كتابا طيلة الفترة التمهيدية المقرّرة)، عليه أن يقوم هو نفسه شخصياً، أثناء كتابته للأطروحة، بإنجاز حصص افتراضية، عبر قراءة المراجع والمؤلفات والمصادر. يعني أن يصير هو نفسه أستاذاً أميناً لنفسه، وهذا لا يتمّ إلا عبر العودة الدائبة للمصادر المتعلقة بالبحث. يبدو لنا أن هذه العودة لا تتمّ بشكل منهجيّ، حيث لا نجد إلا القلة من الطلبة الباحثين ممنْ يمكن أن يقرأ كتاباً كاملاً يتعلق كلياً أو جزئياً بموضوعه. إنه يقرأ مقاطع تتعلق مباشرة به، قاطعا إيّاها عن سياقها، أو يقرأ ملخّصات عن ملخّصات تتعلق بعمله. يصير الأمر خطيراً عندما أزعم أني أنجزتُ أطروحة عن المرئي واللامرئي وفق مارلوبونتي ، في حين أني لم أراجع بالفعل شيئا يُذكر له، أو حين استشهد بدراسة فلسفية عن "اليوميّ" في الفن والأدب، في حين أني قد اخترعتُ اقتباساً عن "فلاسفة اليوميّ" دون العودة بتاتاً إليها. هذا الإيهام المزدوج يخلق في النهاية هياكل معرفية تصدّق بأوهامها وتريد منا تصديقها، قبل وبعد نيلها الشهادات العليا.
أما الانتحال لمقاطع طويلة، أي أكثر بكثير من ستة أسطر أو عشرة، فهو واقع أيضاً. عشرة أسطر قد يُشار إلى مصدرها بشكل ملتبس أسفل الصفحة، وأحياناً يُشار فقط لجملتين أو ثلاث من مقطع منتحل حرفياً بالكامل بصفتها استشهاداً موثقاً، في حين أن المقطع كله مستشهَد به عملياً وفعلياً. وإذا ما استمرتْ عملية التحايل هذه طيلة مئة صفحة، فإننا أمام انتحالٍ متذاكٍ، مختبئٍ في ثنايا استشهاد غامض وتنصيصات شكلية، من أجل التمويه على القراء. ونجد في ذلك احتقاراً لذكاء أساتذته وقرائه، واستغلالاً لثقتهم العالية به.
علينا التفريق بين المصادر التي تقدّم المعلومات الشائعة المعروفة (حيوات الفنانين والأدباء، تواريخ ظهور الحركات الفنية، والمذاهب الفلسفية... الخ) المشاعة في الموسوعات الورقية والإلكترونية، ولا نجد ضيراً حتى في عدم ذكرها، عند استخدامها في سياقات بحوث إشكالية ذات موضوعات متفرِّدة تتجاوز السرد التاريخيّ المحض، وبين التصوّرات الخاصة ببعض محرّري الموسوعات (أي التصورات غير المتفق عليها الواردة مثلاً في بيبلوغرافيا مبدع معين) من جهة، ومن جهة أخرى الأفكار التأسيسية في تلك الموسوعات (طبيعة فكرة الأيديولوجيا مثلاً). أضف لذلك المفاهيم التي يمكن الاعتراض عليها وسجالها في تلك الموسوعات (حول الفن الإسلامي مثلاً). في هذه الحالات الثلاث نجد ضرورياً الإشارة إلى المراجع، والقول إن الفكرة، ليست فكرتي إنما وردت في مصدر محدّد.
إن سرقة (فكرة أصلية) وانتحال (مفهوم) مُستحدَث من طرف مؤلف آخر، حتى بكلمات وأسلوب شخصيّ، والزعم بأنه من إنجازنا، يبدو من الممارسات الفكرية المشبوهة، لأنه يسطو على (شغل ذهنيّ) بَذل مؤلفه الأصليّ الجهد الكبير والوقت الثمين من أجله. ثمة عدم إيمان لدى شرائح واسعة في المجتمع والجامعات العربية بأن النص الأدبيّ والبحث الأكاديميّ هو "ملكية شخصية" تخضع للتشريعات القانونية والمتابعة الجنائية.
خلق الاعتقاد بأن (الفكرة) ليست (سلعة ذهنية)، ظاهرة مستشرية، ويبدو أن واجباً مهنيّاً ومعرفياً يحتم الإشارة إليها والتنبيه لعملها، خاصةً في الوسط الأكاديميّ والحقل الترجميّ.
الاستشهاد، إعادة الصياغة، الانتحال
[post-views]
نشر في: 3 مايو, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...