قبل أن نسأل الفن التشكيليّ العراقي عن سبب تجاهله اليوم لمواضيع بعينها، لنلقي تحيةً للفنان التونسيّ منذر مطيبع.
إن تنصيبته (الأنستيالاسيون Instalation) الفوتوغرافية المعروضة حالياً في صفاقس، تفوح برائحة اللحظة التي تَشْغِل بال الثقافة العربية، وخاصة الفنانين فيها: العلاقة الغامضة الفاتنة مع الجسد الأنثويّ التي يُراد طمسها أو تدجينها بالعنف الفعليّ والرمزيّ كليهما. لنقلْ عرضاً أن ثيمة الجسديّ جوهرية في تاريخ الفن، لأنها نوع فنيّ يتمّ عبره التعبير عن بعض الهواجس في الوجود، وتمرير العديد من المفاهيم الأصلية الكبيرة.
لا نتعاطى عمل مطيبع إذنْ بصفته استفزازاً جمالياً للوعي المعاديّ للذة الجسدية المراد تعميمه اليوم، ولكن بصفته انشغالاً على موضوع عريق يُستعاد في لحظة مواجهة صعبة بين عالم احتفاليّ، يأخذ الجسد ذريعة لتعبيراته الجمالية، وعالم نقيض، آخروي لا يفهم الموضوع إلا بصفته من الزائل وتذكيراً بالموت. ينحاز مطيبع إلى الحياة.
من هنا هذه العودة إلى مفردات الطبيعية، الرحم الأول، ومن هنا استعادة الفواكه والأزهار، خاصة البرتقال، التي ترغب بتذكيرنا بالطريّ والمستدير والفوّاح الذي يمكنه أن يكون مجازاً للالتماعات المنعشة والمكوَّرة على البشرة الآدمية، الأنثوية التي هي قطعة نقية من الطبيعة ذاتها.
لكن أشكال (الطبيعة) هذه التي تحلّ محلّ أعضاء بعينها: البرتقال يصير مجازاً للأثداء في الغالب، تظهر دائماً ملفوفة بالقماش الشفّاف، تريد الانبثاق عبره، ومنه ترتجف التماعاتها الذهبية، كأنها استعارة لحجاب أسود يمنعها من الحضور في العالم.
الأزهار أيضا سجينة خيوط نسيجية شفّافة، تسعى للبزوغ عبرها إلى الضوء، العين الآدمية تنظر كذلك كالسجينة عبر السدى واللحمة. ثلاثة خيارات: البرتقال، الأزهار، العين البشرية، تشكل في نهاية المطاف سلسلة رمزية بالأحرى للتعبير عن سجن كونيّ تجد أشياء الطبيعة البديهية غير المصنوعة نفسها فيه أسيرة شبَكٍ محبوكٍ ومُحاكٍ. حتى الخيارات اللونية الواقعة في التضاد الحاد بين اللون البرتقالي واللون الأسود، والألوان الصريحة الفاتحة جوار الألوان الصريحة الغامقة تذهب بالاتجاه نفسه.
تفاصيل وتركيب هذا العمل تطرق أبوابَ إشكاليةٍ ملحّة، وتلمّح إلى الممكن (هنا) و(الآن) أثناء صعود المدّ السلفيّ المُعادي للجسد.
وبقدر ما يُلامس الأمر الفن التشكيلي في العراق، فإن غياب المواضيع التي تضعها تحت تصرف الفنان العراقيّ المتغيرات الاجتماعية والمشهدية، كالطقوس الدينية الضاجّة، وتحجُّب النساء المرئيّ عياناً، والخراب اليوميّ، والموت الصدفويّ، وفوضى العمارة بجداراتها الإسمنتية، وتقلُّص فضاءات المتعة الفردية والجماعية، والمتغيرات الإيكولوجية شديدة الوطأة على الحياة اليومية، والخضوع لظلام دامس جوار شمعة في قيظ العراق، بل اللذة الحسية الغائبة في هذا السياق المُشْبَع بالروح الميتافيزيقي (وهو ما يعالجه مطيبع) وغيرها، يمكن أن تكون مواضيع في غاية الحيوية للفن البصريّ، طالما أنها تَمنح مادة خام للمعالجة الشخصية.
وإذا لم يستطع المرء تجاهُل معالجات كاظم حيدر لشهادة الحسين التي بقيت شبه فريدة في التشكيل العراقيّ بسبب انهماكها بالبعد الجماليّ قبل أي بعد عقائديّ، فإنه لا يستطيع بالقدر نفسه أن ينسى أن الفن العراقيّ الحالي يخشى الاقتراب من ثيمات مشابهة وبالروح الجماليّ وحده، ويتجنب بإصرار، مواضيع الجسديّ المطموس بالحجاب، المضاف له تحجيب العمارة في بغداد عبر جدارات عالية، وهو موضوع ثري آخر، وغيرها من المشكلات البصرية المحض التي تقدِّم، في نهاية المطاف، إمكانات عريضة لمساءلة تشكيلية ومفهومية في الوقت نفسه.
هل نجانب الصواب لو استنتجنا أن ما يُنْتج اليوم من أعمال، يقدّم، في الغالب، أفراحاً متخيَّلة، بمعالجاتٍ لونية إغوائية، تدور في فلك بعيد عن المواضيع التي يمكن أن يقدّمها الواقع بسخاء للفن، دون أن يكون الأخير واقعياً بالمعنى المعروف للكلمة.
مواضيع الفن التشكيليّ الساخنة: في الحجاب والتحجّب
[post-views]
نشر في: 28 يونيو, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...