"الربيع العربي" طالَ السياسيّ ولم يمسّ الثقافيّ، رغم أن فرضية وجود "فساد ثقافي" ثابتة في أذهان الجميع، ورغم أن الفساد الثقافي يخرج، دون شك، من رحم الفساد السياسيّ.
إذا لم يَمسّ الربيعُ العربيُّ بَعْدُ الشتاءَ الثقافيَّ الطويل، فلأن المشكلة تقع في قدرة الثقافة على وضع قناع سميك من الصياغات والحجج والمقاربات والاستشهادات التاريخية والمصطلحات التي تُخْفي فسادها، في براعة سجالية واصطلاحية عالية تفوِّت على القارئ اكتشافَ المغزى الحقيقيّ الذي يرمي إليه هذا المثقف أو ذاك، وأحيانا لتبرير مواقف فكرية في غاية التناقض والاضطراب، لا بل مواقف موضوعة عملياً في خدمة جهاتٍ هي الطرف النقيض مع القناعات الأصلية للمثقف. وهذا الأمر الأخير جديد بعض الشيء في التاريخ العربي الحديث وإنْ لم ينعدم تماماً.
دون أن تستهدف هذه الكلمة إلا الظاهرة العامة، فإن الأمثلة لا تنقصها مع الاحترام الواجب للمُسْتشهّد بهم. أول ستراتيجيات هذا المثقف تقع في (التعميم) الذي يعني كل شيء ولا يعني شيئاً محدّداً: نقرأ حازم صاغية منذ سنوات بمتعة، لغة عالية، اختصار بليغ، معرفة واسعة، قدرة على الطمس أو التضخيم كما يفعل روائي كبير. إنه نموذج مثالي للمثقف العربيّ السائد في الميديا في العشرين سنة الأخيرة، فهو ببراعة يقول نصف الحقيقة ويطمس النصف الآخر.
عموده "من يجعلنا قابلين للحياة" خير مثال على ذلك بدءاً من العنوان. سأقتطف فقرة واحدة منه: "كشفت التحولات الثورية الكبرى، من حرب العراق في 2003 إلى ثورات الربيع العربي، عن مجتمعات مفتتة ومتكارهة ومريضة". هنا بالطبع كما في بقية مقالاته وكتبه لا إشارة واضحة عن الأصل والمسبّب والمحرّض على التفتيت والكراهية والمرض. وفيما إذا كانت هناك جهات محدّدة مسمّاة ومعروفة تدعو للتفتت والكراهية والحرب وتدفع من أجل ذلك الأموال الوفيرة.
يبدو الأمر قدرياً في كتابات صاغية، لأنه لا يستطيع مجرد الإشارة لمن نعرفهم وصار العالم كله يعرفهم. وإذا ما أشار لطرف ما فلسوف يشير ببراعة كبيرة لطرف واحد وحيد، منسجماً بالمطلق مع أرباب عمله.
هذه الكتابة تبدو إنسانية وعالية للوهلة الأخرى، لكنها تطمس عامدة وجوه التخلف والطائفية والبداوة التي تدعو هي أيضاً إلى هذه الكراهية والتفتت والطائفية.
إما الستراتيجية الثانية للمثقف الموصوف فهي القدرة على قول الفكرة ونقيضها، وتدجين موهبته في منبر لا يؤمن هو به كما تشفّ كتاباته: مُقدِّم ومحلِّل الجزيرة محمد كريشان ذو طلة واثقة، وصوت أكيد ومُساجِل بارع حاوّر كبار السياسيين (منهم محمد حسنين هيكل)، ويمتلك ثقافة سياسية لا تتوفر للكثير من أمثاله. أظن أنه سيبقى، من بين الأسماء المخضرمة مؤسِّسة الفضائية القطرية التي خَرَجتْ منها أو أُخْرِجتْ، الصامد الأخير في الجزيرة. إنه يقدم مثالاً نموذجياً آخر، إضافة إلى حازم صاغية، للمثقف العربي السائد. من جهة يسبّح بحمد "الجزيرة" ويُرْضِى سياسة ممدوحيه مباشرة ومداوّرة، ومن جهة يودّ إقناعنا أنه "مثقف ليبراليّ" عبر مقالاته التي ينشرها بشكل متواصِل في صحيفة "القدس العربي". إنه يقول في الصحيفة ما لا يستطيع أو يريد قوله في الفضائية، وأحياناً ما يناقض قوله هناك.
التأرجح بين قطبي "الجزيرة" و"القدس العربي" المتنافرين بالرؤية والأسلوب والسياسة، هو التذاكي بعينه الذي يمارسه هذا المثقف على قرائه، وعلى هذا المنوال ينسج نسّاجو الثقافة العربية. ومن فساد "ليبراليتهم" المزعومة تعلّم ويتعلّم جيل كامل.
بين هذين المثالين، ثمة أنواع متنوّعة، متحولّة من الفساد الثقافي الأكثر براعة، يعرفه بعضنا لسببٍ ما، وما لا نعرفه حتى الآن سيكشف الزمن عنه.
فساد المثقف العربي
[post-views]
نشر في: 5 يوليو, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
قارئه
عمود رائع لو أنه تجاوز بجرأة الحالة التوصيفية للراهن الثقافي المزعوم الذي أتى عليه وتم وضع النقاط على الحروف ، ثم ان مصطلح المثقف يظلّ إشكاليا على الرغم مما يُنظّرون ، لا سيما في الواقع المُشار إليه أعلاه ، دمتم .