نلاحظ بسهولةٍ وجود مفارقة كبيرة في الأوساط التشكيلية ومعاهد الفنون الجميلة في العالم العربي: إنها معنية في المقام الأول بلغة الفن التشكيليّ الحديث والمعاصر ومهتمة بها، وتبدو ذوّاقة لها، مهما بلغتْ درجة انغلاقها وغموضها وتراكُب مفاهيمها، لكن من دون أن تكون معنيّة بالدرجة نفسها بالشعر الحديث الذي ينطوي على المرجعيات نفسها والانغلاق والغموض والمفاهيم عينها.
هناك شيء غير معقول، بل غير مقبول أن نستمتع بلوحات دوشومب مثلاً بينما لا نستطيع الاستماع إلا إلى الموسيقى الشعبية والريفية وحدها. أو أننا نجد لوحة سوريالية في "قمة الروعة" بينما لو قرأنا صورة شعرية مكتوبة بالكلمات تقدّم عناصر اللوحة عينها لانفجرنا ضاحكين ساخرين (وهي تجربة خضتها عامداً بنفسي مع طلبتي في تونس).
للتو ساهمتُ في مناقشة أطروحة ماجستير تتعلق بأعمال هنري ميشو التشكيلية المنبثقة من تجربة عقار الميسكالين المُهَلْوِس. وهي مناسبة ثمينة تنقاد مُجْبرَة إلى استعادة العلاقة بين الشاعر والرسام طالما نعرف ميشو شاعراً ورساماً على التوازي وبالمستوى نفسه. كانت الأطروحة "جيدة" لكنها تهجر بكل وضوح وغير معنيّة بأصول استخدام المخدرات في الشعر الأوربي الحديث منذ رامبو وتيوفيل غوتييه اللذين أسّسا "نادي الحشاشين" في القرن التاسع عشر. رامبو ظنّ أن تعاطي المخدرات يجعله يسمع أصوات الألوان، والنغمات الخضر والحمر والصفر. وقد تطوّر الأمر فيما بعد إلى ما سُمّي بتراسل الحواس. بودلير كتب ديوانه الشهير "أزهار الشر" تحت تأثير المخدرات وخاصة الأفيون والحشيش من أجل الوصول إلى تجليات روحية فائقة. أما دخول الميسكالين فقد شكّل مرحلة أخرى في الأدب الحديث. وقد اعتبر الدوس هكسلي استخدامه لهذا العقار أمراً حاسماً، وأنه غيّر أفكاره حول الحياة البشرية.
كان بإمكان العودة لشعر هنري ميشو لإضاءة رسومه أكثر من كتاباته النظرية، فهو يقدِّم توازياً داخلياً مع لوحاته. للبرهان على ذلك ترجمتُ وقرأت قصيدة ميشو (أبجدية Alphabet)، وكان واضحاً عبرها أن التجربة الشعرية تظل قريبة تخيُّلياً ورؤيوياً، عبر الصورة والاستعارة والمجاز، إلى عالمه البصريّ. يمكن أن يكون شعر ميشو تجريداً واختزالاً وغموضاً وليس تصويراً واقعياً، فلنقل تشخيصياً. وهو لا يطرح أحياناً إلا عناصر صوتية، سنفترض أنها رديف العناصر "الخطية" و"الخربشات" في رسوماته، ويقدِّم جُملاً لا علاقة عقلانية بالضرورة بينها، سنفترض أنها الرديف اللغوي للتكوين البصري القائم على "الخطاطة" و"التذبذب" و"الاهتزاز" و"التشظي" وما إلى ذلك مما هو مشروح في الأطروحة بصفته من خصائص رسوم ميشو. لو أن الباحث كان معنياً بالشعر الحديث لعرف أن الذهاب إلى العالم الباطنيّ واستثمار الصدفويّ عبر الاعيب السورياليين الشعرية وكتابة بريتون الآلية، وقبلها "الشاعر رائياً" إنما هي في البدء منجز شعري لغويّ، وأن أعمال ميشو التشكيلية إنما هي منجزات بصرية لأعمال شعرية خالصة، موجودة في شعره هو نفسه.
يجد التوازي بين (شعر – رسم) تحقُّقاً بديهياً في تاريخ الفن الأوربيّ، الحديث في الأقلّ، منذ رومانسية القرن التاسع عشر وجميع الحركات التشكيلية التي تلتها، وكان من البداهة بحيث لا يمكن اليوم الكلام عن هذه الحركات من دون وضعها في هذا السياق والاستشهاد بنماذج شعرية جوار النماذج التصويرية.
هذه المهمة مؤجّلة في معاهدنا حتى إشعار آخر، نمتلك فيه تصوُّراً وقبولاً واستساغة للشعر الحديث يماثِل تصوُّرنا للفن الحديث، آخذين بنظر الاعتبار أن الأمر لا يشتغل بالدرجات نفسها في جميع أنحاء العالم العربيّ، نظراً لاختلافات ثقافية محلية وتاريخية معروفة. ففي العراق لا يبدو الأمر كما هو الحال في تونس التي نعرف مثلاً أن المفارَقة صارخة مؤسفة فيها.
بماذا يختلف هنري ميشو الشاعر عن الرسّام ميشو؟
[post-views]
نشر في: 12 يوليو, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...