كتبتُ مرةً أن على المثقف أن يكون مثل شوكة الطعام، ينافح ويستدير إلى الجهات جميعاً في آن واحد. يساجل أحياناً حتى المقربين إليه روحياً وفكرياً وإنسانياً: الليبراليين والعلمانيين. ليس تفكيك بعض مواقف المثقف الليبراليّ ونقدها، دفاعاً عن الإسلاميين دون شك. أرى أن تناقضات قَرِينيْ المثقف الليبراليّ، في اللحظات الحرجة، أعوص أحياناً من مأزق (مثقف الإسلام السياسيّ). فالأخير منسجم مع نفسه، نظرياً في الأقل، بينما لا يبدو القرين كثير الانسجام معها دائماً. في مسألة فوز الإسلاميين في الانتخابات مثلاً يعود بعض الليبراليّين العرب فيغدو مرتاباً من مبدأ الديمقراطية، أو يودّ ديمقراطية على مقاساته. ولقد رأينا ذلك في مصر وتونس، والجزائر قبلهما، بينما مبدأ الديمقراطية لا يتجزأ، وعلى الجميع قبول اللعبة، ورؤية سبب "خسارته" أولاً.
ثقافياً تبرز المشكلة بقوة، بحيث يمكن القول إن بعض خطابات الليبراليين النظرية التاريخية هي أحد أسباب صعود الإسلام السياسيّ. سنتحدث عن مثال تونس. إذ طيلة 12 عاماً من إقامتي فيها، سألت نفسي مراراً: لماذا تستفزّني، أنا العلمانيّ الليبراليّ الواقف طيلة حياته ضد الفكر القومانيّ والإسلام السياسيّ، مواقف وتأويلات الكثير من العلمانيين التونسيين؟. هنا عيّنة يمثلها تصريح الشاعر الصغير أولاد أحمد: "تونس ليست عربية إسلامية. العروبة والإسلام هما التونسيان". هذا الخطاب ليس بُدْعة، بل يعبِّر عن قناعة عند مثقفين كُثر في تونس: هناك فكرة طاغية في بلد فلاحيّ في مجمله، ذي طقوس دينية متسامِحة، مالكيّ المذهب، تَفترِض أن تونس تتفوّق على غيرها بسبب أنها، بالضبط، تمتلك خلفيات حضارية متعدّدة المستويات: بربرية، قرطاجنية، بونيقية، رومانية، .. الخ. الفكر البورقيبيّ وامتداداته الضاربة في لا وعي بعض المثقفين تشدّد على المسألة، ليقول مداوَرة أن الإسلام والثقافة العربية لحظتان قليلتا الأهمية في التاريخ المحليّ (المعزول بدوره بشكل متخيَّل عن تاريخ وجغرافيا بلدان المغرب). عند صعود حزب النهضة صَعَدَ هذا الخطاب بشكل صريح وقويّ واستفزازيّ.
لكن أيّ بلد عربيّ إسلاميّ، لا يمتلك خلفيات متعدّدة المستويات، لعلها أكثر تعقيداً من الخلفيات التونسية؟. سوريا مثلاً: رافدينية، أرامية، رومانية، بيزنطية، عربية، إسلامية، تركية، وشهدت لأكثر من قرنين حروباً صليبية ذات مؤثرات حضارية لم تشهدها تونس في الفترة نفسها. العراق أعقد قليلاً بسبب جميع تلك الخلفيات تلك، يُضاف لها التأثير الفارسيّ والتركي والهندي والصيني وغيرها. أما (إسلامات) العراق وسوريا فمن التنوّع والاختلاف ما نعرفه. لا نسمع في العراق أو في سوريا تشديداً على خصوصيةٍ مفرطة، لعدم وجود إيديولوجية مماثلة لإيديولوجية (الأمة التونسية) البورقيبية. هذا الخطاب يُضْمِر تفوُّقاً متعالياً حتى عليّ أنا الذي أشارك هذا المثقف كفاحه ضد الإسلام السياسيّ. قامت الثورة التونسية، لكن فكرة (الأمة) التونسية المعزولة الفريدة ظلت قائمة بدهاء وخفاء مع نكران ظاهريّ.
هناك عنصران ثقافيان آخران في هذا الوعي المتوَّهم. الأول: الخلط بين (الصورة السياحية) للبلد و(صورته الواقعية). يسعى المثقف الليبرالي لتثبيت الأولى، وهي لا تمتّ إلى الواقع بكبير صلة، بل تنتمي للدعاية المشروعة التي تستهدف جلب الأموال الصعبة. يُقترَح ويُفترّض أن تلك الصورة أرفع من (صورة ابن البلد) الفائز في الانتخابات ومن جميع مظاهر التديّن الحالية. (صورة متخيَّلة)، وفيها الكثير من الرغبات، وتخاطب بالأحرى "المُتحضّر" الذي تودّ أن تكون ونكون معها جزءا منه.
الثاني يتعلق بنزعة (البَرْبَرة) المُفْرِطة التي تصل حد إلغاء العناصر الحضارية المتداخِلة في تكوين المجتمع والثقافة. هنا يُعتبر أن غزو بني هلال ((1050م) (أيّ العرب) سبب تاريخيّ في التخلف. وهذا حديث يحتاج تأنياً وموضوعية، لا يتوفران دائما عند بعض الليبراليين، وليس البتة من أولويات الشعب التونسيّ الكريم.
خطاب له بالطبع أمثلة في العالم العربي، ويشكّل آليةَ دفاعٍ نفسية، ترفض الواقع الآنيّ المرير، قبل أن تكون حقيقة لا تُجادَل.
أوهام المثقف: تونس مثالاً
[post-views]
نشر في: 26 يوليو, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...