ذات مرة سألت امرأة هولندية عجوزاً وأنا أهم بتغليف لوحة كانت قد أشترتها مني قبل قليل وقلت لها ، ما الذي أعجبك في اللوحة ، وما الذي يعجبك في الفن بشكل عام وتقتنين اللوحات بسببه ؟ فردت عليّ بقولها ( لقد تعلمت ومعي الكثيرين أن نتكاتف مع الفنانين وأن نقتطع جزءا مما نملكه كي نقتني الأعمال الفنية ، لأن الفنان يجب أن يعيش أيضاً ويستمر بفنه ، كما نستمر نحن كذلك في التمتع بالجمال ) . كان هذا درساً بالنسبة لي في تواصل الناس مع ما يقوم به الفنانون ، أنها التفاتة أخلاقية إزاء ما يقدمه البعض من ابداع في بلد يقدر الجمال والفن ويعطيه جزءا من قوته ومدخراته . طريقة التفكير هذه ليست جديدة هنا ولا وليدة هذه السنوات ، ولو نظرنا الى الطريق المؤدي نحو تاريخ الفن جيداً فسنرى أمثلة باهرة لرعاة الفن ومحبيه ، وبسببهم أثمرت مواهب كثيرة عن أعمال إبداعية مهمة ومؤثرة . ألم تكن الكاتبة جيرترود شتاين شخصية مهمة في تاريخ الفن ؟ ، هي التي ساعدت بيكاسو في بداياته واقتنت منه أعماله لأنها مؤمنة بموهبته الكبيرة والمختلفة . ألم يكن بروياس شخصية مفصلية ومؤثرة في فن الرسم الفرنسي ؟ حين ضيف الفنان كوربيه ووفر له كل شيء كي ينتج أعمالاً عظيمة ، برغم أن هذا الأخير كان فناناً مثيراً للجدل ، ليس فقط بسبب طريقته في الرسم ، بل بسبب مواقفه وجرأته واعتداده الكبير بفنه ونفسه ، هذا الفنان المتمرد على التقاليد البرجوازية وأساليب الرسم آنذاك ،والذي وصفه الناقد جاك فلام بهذه الكلمات ( يحتل غوستاف كوربيه في تاريخ الرسم مكانة الجد العجوز غريب الأطوار، الذي يحار المرء هل يزهو به أم يعتذر عنه ) ) ، هل كان بقدرته أن يصل الى هذه المكانة الفريدة من خلال موهبته فقط ؟ تاريخ الفن يقول لنا غير ذلك ، فقد كان هذا الفنان محظوظاً بتعرفه على الفريد بروياس ، هذا الرجل الثري الذي يغدق على الفنانين ويرعاهم ، وقد أهتم بكوربيه كثيراً وحلّ كل مشاكله المالية لأنه كان مؤمناً بشكل لا يقبل الشك بعبقرية هذا الرسام . لكن كوربيه من جانبه ردّ جميل صديقه الغني أيضاً وبطريقته الخاصة – بيكاسو فعل ذلك أيضاً مع شتاين - حيث رسمه في واحدة من أعظم لوحاته وأشهرها وهي لوحة ( صباح الخير سيد كوربيه ) والتي كان أسمها ( اللقاء ) في البداية . يظهر بروياس في اللوحة وهو يستقبل صديقه الرسام القادم الى مونبلييه جنوب فرنسا ، حيث يبدو وهو يشير بقبعته للترحيب بصديقه الفنان ويقف خلفه خادمه الذي ينحني بكل احترام بحضور الرسام الشهير .
تقدير الفن والاهتمام به له علاقة بقرون من ممارسة الفن والانحياز التدريجي نحو الجمال ، رغم أن ذلك يتخلله شيئ مما يقوم به السماسرة والأدعياء أحياناً ، لكن الفن الحقيقي هو الذي يظهر ويبقى في النهاية رغم بعض الإخفاقات التي تحدث هنا وهناك .
هل يمكننا يا ترى أن نقارن ذلك بما يحدث في بلداننا العربية وكيف ترعى الفن وتهتم به ؟ هل نجرؤ على عقد هذه المقارنة حقاً ؟ ربما يكون هناك أشخاص معدودون يقومون بذلك الاهتمام ، لكن الغريب مع الأسف الشديد ، هو أننا لا نملك ثقافة أو تقاليد واضحة المعالم لاقتناء الأعمال الفنية أو مساندة الفنانين من قبل الناس أو حتى المؤسسات الرسمية ، والأغرب من ذلك أن الفنانين مازالوا ينتجون أعمالاً مهمة لا يقتنيها أحد .
صباح الخير يا رعاة الفن
[post-views]
نشر في: 26 يوليو, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الهيئة العليا للتعداد العام للسكان تقرر تمديد ساعات العمل للعدادين
اللجنة العليا تقرر إبقاء حظر التجوال بين المحافظات غداً الجمعة
جدل حول دخول مواطنين كرد إلى كركوك قبل التعداد السكاني.. ما القصة؟
تحذير من عاصفة ترابية شديدة في هذا الموعد
العراق يشيد بقرار الجنائية الدولية ضد نتنياهو وغالانت ويعده "تاريخياً"
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
قارئه
لااعلم لمَ امتلأني الشعور بالألم وانااقرأ نصَّ العبارة لجواب العجوز الهولندية التي احالت الاهتمام بالفن والجمال إلى مسألة التزام مشكِّلا فيما بعد عبئا يعتاش على موائد الأخرين ، كم نتمنى ان يكون الجمال حاجة ذاتية تنبع من الاحساس بضرورة التمتع بالجمال للجما
م. سامي علاوي كاظم
بقلم المهندس سامي علاوي كاظم المقال جميل يتطرق الى علاقة المجتمع بالفنان. وبرأيي الشخصي ان المجتع المتقدم ينتظم افراده كأنتطام جزيئات المغناطيس فتصطف الجنوبية الى الجنوب والشمالية الى الشمال وبهذا يتولد قطب جنوبي مغناطيسي قوي الجذب , ويتولد قطب شمالي قوي