TOP

جريدة المدى > عام > شيركو بيكه س... سارحاً تحت سماء كردستان

شيركو بيكه س... سارحاً تحت سماء كردستان

نشر في: 5 أغسطس, 2013: 10:01 م

بنبرة توشك أن تكون رثاءً أو بكاءً خافتاً يمضي الشاعر الكردي شيركو بيكه، وحيداً، بالقصيدة ومعها إلى أقاصي الحزن ولديه ما يقتات به في وحدته تلك. "بيكه س" تعني "الوحيد" بالعربية، وهذا ما تنبه اليه الجواهري حين كتب عن والده الشاعر الراحل فائق بيكه س قصيد

بنبرة توشك أن تكون رثاءً أو بكاءً خافتاً يمضي الشاعر الكردي شيركو بيكه، وحيداً، بالقصيدة ومعها إلى أقاصي الحزن ولديه ما يقتات به في وحدته تلك. "بيكه س" تعني "الوحيد" بالعربية، وهذا ما تنبه اليه الجواهري حين كتب عن والده الشاعر الراحل فائق بيكه س قصيدة قال في أحد أبياتها: "بلا أحد غير خضر الجبال/ ووحي الخيال وصمت الأبدْ".

لعل بيكه س الابن أدرك هذه الحقيقة باكراً فغمس قلمه في مداد الطبيعة وراح يخط ما تجود به صفحات الوهاد وضفاف الحياة وحفيف الشجر لتكون هذه هوية لشعره وعنواناً مألوفاً لكل قارئ يطرق باب قصيدة بيكه س البسيطة والعميقة في آن. وبرغم أن القصيدة المترجمة هي "فاكهة مجففة"، كما يقول الشيخ عفيف الحسيني، لكن لبيكه س طريقته الخاصة في الحفاظ على القصيدة طازجة ومقروءة في كل حين.
يواصل بيكه س في مطولته الشعرية "إناء الألوان" دار الآداب، بيروت - 2002 مشروعه الشعري الذي بدأه في نهاية الستينات مع ديوانه الأول "ضياء القصائد"، فمذ ذلك الحين وقد تجاوز عدد دواوينه الآن عشرين ديواناً يسعى الشاعر إلى التقاط اللحظة الشعرية من خلال تجربته الفردية التي اكتسبت مساراً متفرداً بحكم انتمائه إلى أرض مثخنة بالجراح ومفعمة - برغم ذلك - بأمل لا يني يولد من رحم المأساة وينمو على أغـصان اليـأس.
إن قصيدة بيكه س بهذا المعنى هي في بنيتها احتفاء بالطبيعة الساحرة المتنوعة وهي في جوهرها نتاج لجغرافية قلقة وتواريخ دامية. وهو إذ يراقب كل هذه الأهوال ويعيشها لا يجد سبيلاً آخر إلى التغلب عليها أو تجاوزها إلا بالشعر الذي يأتي أشبه ببوح حزين، وأقرب إلى نشيج متواصل لا ينقطع مثلما لم تنقطع مأساة شعبه الكردي، فراح الشاعر يوظف هذا الغبن أو الظلم الذي لحق به وبشعبه "ليرتقي" بالمأساة شعرياً عبر نزعة إنسانية تتجاوز حدود معاناته الفردية ومعاناة أبناء شعبه لتحتضن الألم الإنساني في جميع الأزمنة والأمكنة. ومن هنا، علاوة على أسلوبه الرقيق وصورته الشعرية المتألقة، احتل بيكه س مكانة بارزة في خريطة الشعر العالمي المعاصر فترجم شعره إلى مختلف اللغات، منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية والسويدية والنروجية والدانمركية والمجرية والفارسية والتركية، فضلاً عن العربية حيث ترجم له إليها خمسة دواوين هي: "مرايا صغيرة" و"مضيق الفراشات" و"ساعات من قصب" و"نغمة حجرية" و"سفر الروائح" وكذلك ديوانه الأخير "إناء الألوان" الذي نحن في صدده. وبرغم إتقان الشاعر العربية ونهله من الثقافة العربية وتراثها الزاخر، لكنه يؤثر الكتابة بالكردية تحديداً.
يأخذ الشاعر على عاتقه في هذا الديوان الجديد مهمة عزف الألوان فيدخل قاموس اللون ويسرد في ما يشبه الرواية الشعرية مزايا اللون وسجاياه ومثالبه. فمثلما للأشجار والأطيار والأنهار والورود والمدن والقرى ووجوه البشر ألوانها المادية المحسوسة، كذلك فإن للموت والحب والمأساة والغربة والحنين والفراق والفرح والبكاء والعزلة ألوانها المجازية التي تستقر في صفحة الذهن والخيال لتتحول في لحظات وحي نادرة إلى صور شعرية آسرة، لا بل أن معرفة اللون الحقيقي للأشياء المادية المحسوسة تأتي في اعتقاد الشاعر بالمران والخبرة والتجربة. فاللون لا يعرف الحياد أو في الأقل هذا ما يراه الشاعر من أن لكل لون إيحاء معيناً ودلالة محددة: "ليس في مقدورك أن تعرف الأحمر وأن تدرك أسراره/ أو أن تقرأ الدماء إن لم تعرف أرض بلادي!/ ولن يكون في مقدورك التعرف على لون الوحدة ولون الكرد/ أو أن تقرأ التجليات الإلهية/ إن لم تدرك الغربة والعزلة وغروب الألوان".
وحين نقول ان بيكه س يتمتع بأسلوب متفرد في الكتابة، فذلك مرده إلى لغته المتدفقة الهادرة حيناً والهادئة أحياناً، لكنها وفي جميع الأحيان تشبه اللوحة التشكيلية، فقوامها الكلمة المكتوبة التي تكاد تنطق بصخب الطبيعة وفورانها. فهي تخبئ في ظلال مفرداتها طبيعة كردستان المزركشة والموشاة بعبق الحياة بكل ما تحفل به هذه الحياة من المرح والرحيل والمعاناة والأمل والحب. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الشاعر يسبغ على كل ذلك وشاح المخيلة الخصبة ورهافة الحلم المشتهاة لتأتي القصيدة مزيجاً من هذا وذاك تروض الأمل المؤجل وتخفف في الآن ذاته من سطوة الموت والقتل المباح: "سوف أبقى في النهارات المشمسة والصافية/ شاخصاً حتى زمن بعيد/ تمثالاً على شارع المستقبل/ أتأبط حقيبتي وأوجه بسمتي إلى الجبال".
وبرغم أن مناخات القصيدة تتشابه وتتقارب، تلك المناخات التي لا تستطيع مبارحة ما يعتمل في نفس الشاعر كذات تعاني العزلة وألم الفقد وتتوق إلى الحرية، لكن قصيدته بالرغم من هذه السمة الذاتية الوجدانية تنقل ما في الذاكرة الجمعية للكرد وتراثه الغني بالأساطير والحكايا والميثولوجيا مع كل ما يحفل به هذا التراث من الثراء والزخم، وكذلك يتكئ الشاعر على شذرات من ثقافات الشعوب كتأكيد لنزعته الإنسانية التي تقود الشاعر إلى البحث وتقصي الهواجس في تجربة المبدعين من أمثال لوركا، وبوشكين، ونجيب محفوظ، وديستوفسكي، وجان جينيه وسواهم: "كم نحن دناة من بعض/ يرتعد لون "جان جينيه" برداً/ في أحد شوارع باريس/ ومعطفي هنا يشعر به ويرتجف/ في ضفاف النيل/ تطعن إحدى السكاكين/ رقبة رواية "أولاد حارتنا"/ وهنا... يرتجف "محمد الصغير، صبّاغ الأحذية"/ في مقطع من أشعاري!". إن قصيدته تسيل كجدول ماء رقراق تشيع في النفس حبوراً لكنها تترك خيطاً رفيعاً من الألم وتقلب صفحات الخيبة وما أكثرها، لتفتح أمام الذاكرة قلقاً مقيماً وأسئلة موجعة لا تتلاشى طالما كان في الأرض طغاة يبنون صروح المجد الزائف بدموع الجياع وآلام المضطهدين: "إذا انتحب طفل بين ألوان الجوع/ في أي زاوية من الدنيا/ فإن أحد براعمي يبحث عن لقمة بفمه هنا/ وتبتل وجناته بالدموع/ وإذا قتل أحدهم بين ألوان المظالم/ في أي زاوية من الدنيا/ فإن حديقتي البيضاء تشهق نَفَس التحسر/ وتغمس قامتها في الاحمرار".
بيكه س هو "لسان الطبيعة الكردستانية في حال تفجرها وتفتحها وتماهيها مع التاريخ" كما شاء أن يصفه مترجم الديوان شاهو سعيد. وهو وصف دقيق يفصح عن سيماء شاعر استطاع المواءمة بين القول والممارسة، بمعنى أن بيكه س في كل ما كتب ودوّن ينطلق من خصوصية الأرض المترعة بالآلام التي وجد نفسه بين تضاريسها، وما أصعب مهمة الشاعر وسط الخراب! لا سيما إذا كان هذا الشاعر يمتلك حساً عميقاً يمنـعه من تجاهل ما يرى بأم عينه، وهو يقترب في هذا المنحى من شعراء كبار مثل ناظم حكمت ومحمود درويش والسياب وبابلو نيرودا والشاعرة غابرييلا ميسترال وسواهم. وربما لهذا السبب ولارتباطه العميق بالجذور والأرض والتاريخ تمكن من أن يجد قراء لقصيدته في كل بقاع الأرض.
 عن: الحياة اللندنية

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

بيت القصب

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram