(1) لا شفاعة لنا، ولا مخرج من الأزمة التي تعيد إنتاج نفسها كل يوم، دون تصفية جذور النظام السياسي الذي بُني على قاعدة المحاصصة الطائفية. ولم يبق أمير طائفة، او مختار عنها، لا يُكيل للمحاصصة هذه، الشتائم صبحاً ومساءً، وأمام شاشات التلفزيون وفي اللقاءات
(1)
لا شفاعة لنا، ولا مخرج من الأزمة التي تعيد إنتاج نفسها كل يوم، دون تصفية جذور النظام السياسي الذي بُني على قاعدة المحاصصة الطائفية. ولم يبق أمير طائفة، او مختار عنها، لا يُكيل للمحاصصة هذه، الشتائم صبحاً ومساءً، وأمام شاشات التلفزيون وفي اللقاءات والمنتديات السياسية. الفرق بين احدهم والآخر، يُبان في مستوى المزايدة على إشهار البراءة منها، والتعفف عن الارتباط بها. وهذه القطيعة المُرائية تفضحها الممارسات "الطائفية" بامتياز، من قبل الجميع وعلى كل المستويات. ولكن ما يُفيد لفضح المرائين وإجبارهم على الظهور كما هم عليه، هو البناء على البراءة التي يعلنها الجميع، والانطلاق من التقييمات الذميمة التي يطلقها قادة الكتل، وتأكيداتهم بأنها السبب المباشر في كل المآسي والمخاطر التي يتعرض لها العراقيون، وتتهدد العملية السياسية ومستقبل البلاد.
ليس في العودة الى بدايات تشكُّل العملية السياسية والقيمين عليها، من فائدة تُذكَر، الا في معرض التحول عنها وفقاً لآلياتها، وهذا ليس متعذراً فحسب، بل يكاد يكون مستعصياً. فالاطراف المستفيدة منها هم النخب الحزبية التي اغتصبت ارادة المكونات، وكرست الاسس والأدوات التي تعيد انتاجها موضوعياً، وتَشُل اي إرادة ذاتية "نافرة" تتمرد عليها، وتغرد خارج السرب، بغض النظر عن الدوافع التي تحركها.
وتفكيك عملية "الاغتصاب" وتبسيط آلياتها أمام الرأي العام، من شأنه التمهيد ولو عبر خطوات مقنعة لإظهار "المحاصصة" بوصفها صيغة لتقاسم السلطة وامتيازاتها، وما يحوم حولها من شبهات الفساد والانتفاع غير المشروع. فـ"المحاصصة الطائفية" التي أُريد لها أن "تُنْصِفَ المكونات" وتحمي نسيج المجتمع العراقي من التمزق، أصبحت في واقع الحال "محاصصة نخبوية"، وتقاسماً للسلطة، على قَدَر نفوذ الأحزاب الطائفية، وتجلياً لمصالح قياداتها وكوادرها والمحيطين بهم، وتجسيداً لضيق افقها، بحسابات الانتماء والانحدار الاجتماعي، وتجنب التوصيفات "الطبقية" للحالة، خشية التلبس بـ"شبهة" الانحياز الايديولوجي!
لقد جرى اعتماد صيغة "التوافق الوطني" بعد الإطاحة بالدكتاتورية في نيسان عام ٢٠٠٣، لضمان مشاركة تمثيل جميع المكونات المجتمعية، وتجاوز معيار الأكثرية والأقلية، دون إعاقة التطور في العملية السياسية ووضع اللبنات التأسيسية للدولة الجديدة، مع ضمان احترام إرادة الاكثرية، وتسليك رأي الأقلية في اطار عقد تفاهم سياسي، يقود في نهاية المطاف الى اعتماد المواطنة الحرة في اطار دولة القانون والمؤسسات والحريات، وتداول السلطة، وفقاً لدستور ديمقراطي يراعي التوازن، ويخلق البيئة السياسية -الاقتصادية والاجتماعية- الثقافية التي تحقق المساواة والتكافؤ في الفرص والعدالة الاجتماعية.
(٢)
النظام السياسي الطائفي وصيغته التحاصصية، لم يعد بحاجة إلى تعرية جوهر ما أنتجه في التطبيق العملي. فالأعوام العشرة التي مضت، منذ تسليكه، كشفت عن الآلية التي تضع دون تورية، "الطبقة السياسية" التي تبلورت في "نخبٍ" و"كانتونات"، في مواجهة مكشوفة امام مزاعم تمثيلها "الطائفي" والمناطقي. وبيَّنت بوضوح دامغ، ان هذه الطبقة ومن تستعين بهم، من نخب متخمة بالامتيازات ومغرقة في الفساد، استطاعت ان تخلق لها اطراً اشتراعية، تُؤمّنُ لها الاستمرارية، تتكافل فيها السلطات السيادية الثلاث في تعطيل اي ارادة تغيير ترتقي بالعملية السياسية وتعيد صياغة مبانيها، لتخلق البيئة القادرة على تخطي المحاصصة، وترسي اسس المواطنة ودولة القانون والمؤسسات والحريات والتكافؤ الحر.
ويبدو هذا شديد الوضوح، في الدورة العبثية المفرغة لخارطة المنافذ المفتوحة بين كل من السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، واستعصاء الخروج من متاهاتها التي تصب كلها في خانة الكتل التي لا يمكن تحت اي ظرف الافلات من قبضتها وتحكمها. وهي تخضع، مع تغير المواقع وتبادل الادوار، الى ذات الارادات المقررة، كما لو كانت اواني مستَطْرَقَة!
لا يمكن لأي قانون، ولا أي تدبير، ولا أي تغيير، أن يتحقق خارج هذه الدائرة الضيقة المخاتلة، حتى ولو تعلقت بمعالجة ما يتعارض مع روح الدستور وكل مبادئه، ومع المصالح الوطنية العليا، وادت عرقلة تشريعها او إقرارها الى ازهاق أرواح آلاف العراقيين، كما هو الحال الان، وادت الى تبديد موازنة العراق السنوية نتيجة هدر او فساد او تعديات، كما نتعايش مع مظاهرها على مر الايام والسنوات.
ويكفي البحث في "مستودعات غوغل" لمعرفة ما اذا كان في أي دولة حول العالم، ولتكن أكثرها فساداً واستهتاراً، حكومة تشكلت بلا قوامها المقرر، لا وزراء للدفاع والداخلية فيها، يبقى رئيس مجلسها ينفرد بها طوال عهد وزارته، ويتعرض البلد نتيجة ذلك إلى مصائب ونوائب، دون ان يتجرأ البرلمان او التحالف الوطني، على فرض استكمالها. مع ان التكليف يشترط ان يجري إشغال الوزارات الشاغرة عرفاً خلال بضعة أسابيع!
(٣)
وبالعودة الى خارطة "المحاصصة الطائفية" تتكشف براءة المواطنين من كل الطوائف منها. فلا احد من غير المنتمين الى الأحزاب والكتل، غير الخاضعين لأجندتها، مشمول بأي قدر من الاهتمام، أو الرعاية والمراعاة.
فليس للشيعي من أي محافظة او مدينة او قرية، وكذلك للسني، ان يحظى بوظيفة او موقع او امتياز "بالحج" حتى، اذا لم يكن منتسباً وموالياً للأحزاب المتنفذة. وكل وزارة ومديرية ومؤسسة تتسلط عليها قيادة الحزب صاحب "الحصة"، وهوية الانتماء اليه، او التوصية منه، هي دمغة المرور فيها وتحقيق المراد. ولا غرابة في ان تختلف القراءات والمقرئين والشعارات بين وزارة وأخرى في المناسبات المذهبية والزيارات الحسينية ومراكز تحشد المسيرات الراجلة والسيارات الحكومية المواكبة لها.
و"نعمة" المحاصصة، تحولت الى نقمة وتجويع وبطالة مزمنة في المحافظات الشيعية. فلا كهرباء ولا مساكن ولا فرص عمل ولا بطاقة تموينية ولا ماء شرب نقي، ولا مستشفيات ومستوصفات. وفي ٣١ آب تلقى المواطنون في هذه المحافظات بركات حكومة المحاصصة، هراوات وضربا بأخمص البنادق واطلاق رصاص حي واعتقالات وشتائم مقذعة وملاحقة الجرحى في المستشفيات. ولعل الإيجابية الوحيدة فيما جرى من قمع، انه جاء تأكيدا، بلغة المختار وطريقته، على "العدالة والتساوي في الفرص والتكافؤ في تحمل المسؤولية" بين المتظاهرين!
إن جولة سريعة في المحافظات، تسلط الأضواء الكاشفة على الطبيعة المخادعة لما سمي بالمحاصصة الطائفية، التي تبين أنها ليست سوى تحاصص نخبوي، وتقاسم في نهب ثروات البلاد.
(٤)
وفي مثل هذه الاستحالة باعتماد آليات المحاصصة، لتغيير نظامها، لا بد من تجاوزها بما يكشف عيوبها. فاذا كان المطلوب، ضمان استحقاقات المكونات بالاستناد الى نسبة الكتل السكانية، فمن الممكن اعتماد الآليات التالية:
اولاً: العمل على فرض سن قانون يُحَرّم اقامة احزاب او تكتلات على اساس مذهبي، وهو ما يتضمن تحريم تسييس الدين او تديين السياسة.
ثانياً: الإبقاء على مؤسسات الدولة "العميقة" افتراضاً، وحصر الاستحقاق الانتخابي في مواقع الوزراء بالتحديد.
ثالثاً: تشكيل مجلس الخدمة العامة، على أساس الخبرة والكفاءة والنزاهة وسنوات الخدمة والتنوع، مع الأخذ بالاعتبار كخطوة أولى، التوازن الوطني السكاني.
رابعاً: توزيع الوظائف والدرجات الخاصة، والشواغر الاتحادية، على أن تشمل الجيش والقوات المسلحة والاجهزة الامنية، ووزارة الخارجية، على المحافظات، وفقاً لنسبة السكان في كل محافظة، على أن تقدم طلبات التوظيف المستوفية للشروط المعلنة، وتجري المفاضلة بين المتقدمين من نفس المحافظة دون ترحيلها، بحجة عدم توفر الكفاءات، إلى محافظة أخرى.
وينبغي ان تقدم الطلبات في ظروف مغلقة سرية، الى مجلس الخدمة الاتحادي، ويجري الاختيار من قبله بدون تدخل من الأحزاب.
خامساً: اعتماد سجلات الناخبين في كل محافظة، عند التقدم للترشح في الانتخابات المحلية والتشريعية، لمراعاة تمثيل حقيقي للمحافظة.
سادساً: اعتماد ذات الأسس في توزيع مناصب الحكومات المحلية، في المحافظات والأقضية والقرى.
سابعاً: مراعاة التمثيل المناسب للمدن والمناطق في الحكومات المحلية. وتشكيل مجالس خدمة في كل محافظة تتولى المهام المذكورة وتحافظ على سويتها ومعاييرها.
ثامناً: يُراعى في تشكيل الحكومة الاتحادية في الدورة القادمة، اختيار الوزراء وفقاً لمعايير الكفاءة والنزاهة والسلامة الأخلاقية، من المحافظات، لتكون الحكومة ممثلة لكل المحافظات، ولكل العراقيين.
إن إعلان نشطاء البصرة بدء العمل الجماهيري والسياسي، لإنهاء سياسة المحاصصة الطائفية، خطوة في الاتجاه المطلوب، وتعبير عن نضوج الظرف الموجب للمطالبة به.
ولكن اي خطوة في هذا الاتجاه تتطلب بالضرورة الضغط لإجراء إحصاء سكاني شامل لا يقبل التأجيل.
جميع التعليقات 1
سحر
تحية لك يا استاذ فخري انت ذكرت اهم نقطة وهي سن قانون على عدم اقامة احزاب دينية وهذا الاجراء الوحيد الذي يعيد للعراق تحضره فالدين مكانه الجوامع والحسينيات وليس البرلمان والحكومة ولكن كيفية الوصول الى سن هذا القانون هي المشكلة ونرجو من حضرتكم المساهمة في ه