سخر السيد وليد جنبلاط، مؤخراً، من تحوّل معظم أركان الطبقة السياسيّة إلى محللين جيو ستراتيجيين ارتقوا إلى مرتبات التخطيط والتفكير والتأويل حيال المتغيّرات الكبرى والتحولات الاستثنائيّة في الشرق الأوسط والعالم، وتبرّم من زحام شاشات التلفزيون "بالمئات من الضباط المتقاعدين والمحللين العسكريين من ذوي القدرات الهائلة والطاقات المتفجّرة في قراءة المعطيات والمواقف الدوليّة وانعكاساتها الستراتيجية والتكتيكيّة". ولعله نسيَ مثقفي الفضائيات من أساتذة الجامعات وحملة شهادات الدكتوراه الذين يشكّلون ظاهرة استثنائية أخرى.
وأحسب أن هؤلاء المثقفين يعكسون وجهاً من الوجوه الخفيّة لنمطٍ سائدٍ من أنماط المثقف العربيّ الذي تكمن قدرته في إمساك العصا من وسطها في جميع الحالات والظروف والمتغيرات، وتقديم خطاب يتسم، بشكل عامٍ، بعدم إزعاج سياسات المنابر التي يظهر فيها، لكن بقناع الرجل المزوَّد بالحجة والمنهجية. وبالانتقال من منبر لآخر يمكن لهذا النمط من الخطاب أن يغيّر بعضاً من مفرداته وفق المرغوب به هنا أو هناك.
مثقف الفضائيات يسيطر على فن صياغة تعابير تُرضي الجميع، وفي الوقت نفسه يبدو عارفاً وموضوعياً وغير متحيّز، حتى لو كان الأمر يتعلق بأعظم الجرائر في التاريخ البشريّ. مثقف براغماتيكيّ بالمعنى الذي يمكن أن يأخذه المصطلح في العالم العربيّ. و(نسخة عربية) من معلّقي كبريات الصحف الأمريكية والأوربية.
ومثل مثقفي الصحافة الرسمية اللاهثين خلف للحدث، بلا استشراف للآتي، ولا تقديم توقّعات محسوبة للقادم، والسائرين وفق توجهات صارمة لتطبيق استراتيجيات بلدانهم، يتمسك مثقفو الفضائيات بالنتائج الأخيرة للأحداث، في تجاهلٍ واضح لمسبباتها الأصلية، أو في نسيان متعمّد لأسبابها. الحدث السوريّ خير مثال على ذلك. وفيه ينشطر "المثقف الفضائيّ" إما إلى تحريضيّ، دعائيّ يرى وجهاً واحداً من الصورة، طامساً بالعمد جميع العناصر الأخرى المكوّنة لها أو مهمّشا إيّاها، وإما إلى (عملياتيّ) صارم لا يرى سوى النتائج الأخيرة وينطلق منها في التحليل. هذا الأخير يرى فقط "الفأس في الرأس" ولا يرى "كيف وقعت" الفأس في الرأس. كلاهما يتطابقان في نقطة واحدة هي أنهما يتابعان مزاج الفضائيّة التي يتكلمان فيها، أو المزاج العام المهيمن المصنوع صناعةً اليوم في العالم وفي المنطقة العربية بحكم آليات لم تعد تخفى على أحد.
في الحدث العراقي أيضاً، يظهر هذا الخطاب القادر على الحديث عن كل شيء ، في لغة تتسم بالنمطية، ولا تغيّر من استراتيجياتها النصية سوى تفاصيل الواقعة، وبالسير دوماً وفق خطاب ومصطلحات مهيمنة معروفة، محلياً وعربياً. من النادر أن نرى محللاً يمتلك أدوات شخصية ورؤية ذاتية. كأننا أمام نسخ متكررة من عمل واحد أصليّ.
المشكلة في ذلك كله أن هذا المثقف يغدو تابعاً وليس صانعاً. وفي أسوأ الاحتمالات مبرّراً للواقع وراضياً بنتائج صُنّاع السياسات وليس محللاً وناقداً لها. نرى هذا الأمر اليوم بشأن الضربة العسكرية المتوقعة لسوريا. إذ بثقة كبيرة وبلغةٍ تودّ أن تكون موضوعية مُفْحمة، يريد منا الاعتراف فقط بالنتائج التي آلت إليها الأوضاع في سوريا، وبالتالي القبول بالضربة رغم إدانته مثلنا لقمع وظلم وقسوة النظام السوريّ، ضارباً بعرض الحائط المسائل الإنسانية والأخلاقية التي لن يستطيع مثقف ذو ضمير حيّ تجاهلها، ناهيك عن تأجيل التحليل بالدوافع العميقة، العربية والعالمية، التي قادت حثيثاً إلى المآل الأخير للأحداث.
إن تناوُل المآل الأخير ليس رديفاً وحيداً للموضوعية، لأنه سيبدو، في الحالتين العراقية والسورية، وكأنه قبول بالستراتيجيات الكبيرة المُخطَّط لها للمنطقة، بالقوة وبسلطة المال والميديا. لهذا السبب يمكن الاستنتاج أن بعض مثقفي الفضائيات يشكّل جزءاً من لعبة الميديا المعقّدة لكن الملعوبة لصالح الصناع الكبار في الغالب الأعمّ.
مثقّفو الفضائيات
[post-views]
نشر في: 13 سبتمبر, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...