صرنا نقرأ ونسمع أن وسائط التواصل الاجتماعيّ، خاصة الفيسبوك، اسهمت بدَمَقْرَطَة الشعر العربيّ الحديث، وإنزاله من بروجه ذات البروق إلى أوسع فئةٍ من القرّاء، الأصدقاء في الأقلّ، وأنه ألغى التخوم بين طبقات الشعراء، فلا كبير هنا ولا صغير ولا متوسط الحجم (برغم أن هذا التصنيف يليق بمقاسات الثياب بالأحرى)، وأنه أنتج استسهالاً في تمثُّل وإنتاج الفن الشعريّ، وخلق أوهاماً عن الأهمية الإبداعية الفعلية لما يُكتب، طالما أن بعضنا يصدّق أن معيار الجودة الشعرية واقع في استحسان الأصدقاء الخُلَّص (حيازة عدد كبير من اللايكات الشهيرة المُلتبِسة). وغير ذلك.
لكن من الأغلوطة والتخليط القول إن وسائط التواصل الاجتماعيّ في العالم العربيّ قد أنتجت أساليب شعرية جديدة كالجملة البرقية، والنص القصير المكثف، والقصيدة الحكمية ، والأبيغرام، واللمحة اليومية الخاطفة، والتعبير الآنيّ الفوريّ اللاواعي، والصورة اليتيمة الصادمة، والاستعارة الوحيدة القوية، والقصيدة القصيرة جداً، والشذرات. جميع هذه الصيغ دون استثناء ليست اختراعاً نجم عن هذه الوسائط.
فقد عولجت هذه الأشكال منذ وقت طويل في الشعر الفرنسيّ، كما في شعر رينيه شار مثلاً، وهو ما سبق أن كتبناه في السابق. كما أن القصائد القصار جداً كانت حاضرة في الشعر العراقيّ منذ نهاية الستينات وفي السبعينات.
هذه الصيغ التجريبية كانت على الدوام حاضرة في ثقافات تضع للتجريبيّ المقام الأول في (الشعر) و(العلم) كليهما، ولا تستخف به، كما تفعل ثقافتنا على أساس أن التجريبية دليل على تكوين شعريّ هشّ أو غير واثق أو متردّد أو ناقص لدى هذا الشاعر وذاك الكاتب. لم نقرأ مديحاً واضحاً صريحاً للتجريبية في الثقافة العراقية إلا يوم (16-09- 2013) في جريدة الصباح من طرف الناقد ياسين النصير بعنوان "التجريب أساس التجديد". هذا وقت متأخر بشكل مؤسف. لعل هناك إشارات متناثرة أخرى سابقة في ثقافتنا في قبول التجريبية، لكنها لم تكن القاعدة العامة بحالٍ من الأحوال. كانت التجريبية نوعاً من السبّة والمثلبة، ومن السهل البرهان على ذلك عبر سلسلة من الكتابات النقدية منذ الخمسينات حتى يومنا الراهن.
لهذا الأمر دلالة. فالثقافات ذات الأيديولوجيات المحافظة، مثل المجتمعات المحافظة، تخاف التجريب لأنه يسأل بداهاتها السيوسيولوجية ومعاييرها الشعرية والأدبية على التناوُب. في شعر الفيسبوك محاولات للهروب من الوعي المحافظ، بل الاصطدام به طالما أن الرقابة تتحطّم أو لا يبقى سوى الذاتيّ منها.
شعرياً، يقوم الفيسبوك بتهديم أمرين اثنين في الأقل، بالنسبة لمقاسات الخياطة الشعرية: يُحاصِر مَنْ كان يُحاصِر جميع ضروب الشعر الممكنة في العالم العربي، لصالح رؤيته للشعر وبالتالي لمزاجه الشخصيّ حصراً. يحاصره ويَقترح عليه التحديق بمزاج آخر، شبابيّ أو أقل شبابيةً: مُحايث. لقد كُسِر احتكارُ المحررين – الثقافيين الشعراء بشكل نهائيّ، لصالح المهمًّشين عمداً والجيل الجديد.
الثاني أن الفيسبوك يواظب على تقديم نص شعريّ منسجم مع طبيعة وسائط التواصل الاجتماعيّ الحالية، متوهِّما بأنه ذو أسلوب جديد لا مثيل له في التجارب السابقة العربيةّ والعالميّة. شعرية (البيت الواحد) دليل ضارب في تاريخ الشعر العربيّ على شعرية الومضة.
لم تفعل الوسائط الحديثة سوى تفضيل ما هو سريع وقصير وجالب للانتباه بسبب الطبيعة المتحرّكة المؤقتة لها، وتَنَحّي القداسة والمعيارية النهائية عن النص الشعريّ. للأمر فضائله وله عيوبه دون شكّ.
يسهم اليوم عدد متزايد من الشعراء العرب بالنشر على الفيسبوك، بعضهم بتحفّظ، بينما ما زال العديد من مقاسات (الكبير) و(الوسط) يحجم عن ذلك، لأسباب مختلفة، أحسب أن القداسة والهالة حول الشعر والذات من بينها.
لا يضيف الفيسبوك شيئاً للنص الشعريّ الرديء، ولا يُنقص شيئاً من أهمية الشعر المتألق.
الشعر والفيسبوك
[post-views]
نشر في: 20 سبتمبر, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
قارئه
جميل إمساك العصا من المنتصف ، لكن أتفلح المحاولة وحال التوصيف أعلاه ، دمتم للإبدع .