اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هل شعرية "ّالشذرة" مبذورة في إرثنا الأدبيّ؟

هل شعرية "ّالشذرة" مبذورة في إرثنا الأدبيّ؟

نشر في: 11 أكتوبر, 2013: 10:01 م

المشكلة التي أحاول طرحها هي التالية: في كلّ مرة يَشيع شكل شعريّ في الوسط الثقافي، يسعى بعضنا إلى إيجاد مرجعيات له في التراث العربيّ، كأن إرثنا الأدبيّ جامعٌ شاملٌ، وعابرٌ للتاريخ، وينطوي على جميع الأشكال الأدبية حتى قبل انبثاقها. جوهر هذا الموقف إما إيديولوجيّ وإما مصاب بخلل منهجيّ: تبجيل للماضي دون مساءلة، ومسعى متخيَّل لإيجاد موضع قدم في تاريخ الأدب المعاصر.
لقد رأينا الأمر نفسه، حرفياً، بشأن قصيدة النثر التي قيل لنا أيضاً إنها كانت موجودة في التراث العربيّ، ووقع استخراج نصوص ذات مسحة شاعرية منه، على أنها قصائد نثر، واسْتثنِيَ قليلاً النص القرآنيّ الذي كان يتوجّب، ضمن هذا المنطق، وضع الكثير من سوره المكيّة في سياق قصيدة النثر.
كان معيار (القصدية)، في رأيي، غائباً على الدوام. وأقصد بذلك التأمل والتفكير العميق، الواعي بضرورة هذا الشكل أو ذاك، في سياق تطور معرفيّ وتاريخيّ ومزاجيّ يُنتِج، وحده، الأشكال الجديدة حتى لو وقع حافرٌ على حافرٍ. وأفترضُ لهذا السبب أنّ للأشكال تاريخ يمشي بالتوازي مع تاريخ المعرفة، وأنها لم تكن موجودة منذ بدء الخليقة. وبالنتيجة فإن وجود "مثيل" و"مشابه" في الماضي لا يعني بأنه طلع من شروطٍ وضروراتٍ تماثِل شروط التراكُم الجماليّ الحالي، مع جميع التحفظات الضرورية.
ينطبق الأمر على الشذرة. إن التوقف فحسب عند شعرية (الاختصار) و(الحكمة) فيها اليوم، لا يعني أن كلّ اختصار وحكمة قديمتين تقعان في نكهة واشتراطات الشذرة المعاصرة. فالتوقف عند الاختصار يعني أننا نمنح للشكلانيّ الصرف مرجعية منهجية مُفرطِة وغير مقبولة. أما الحكمة، فشتان بين حكمة واثقة مشدودة لوعيّ ميتافيزيقيّ مُغلق، وحكمة معاصرة غير واثقة، وجودية، مفتوحة على الاحتمالات، بل شكّاكة. شذرات النفري وابن عربي وكتب "الكشكول" التي يمكن أن نجد فيها شذرات تتراوح بين الغث والسمين، ومقتطفات المتصوفة، وغيرها تقع في إطار الحكمة الدينية بمختلف ضروبها، والدنيوية المغلقة غالباً بدورها، بينما شذرات رولان بارت وكريستيان بوبان مثلاً فإنها تقع في إطار (حكمة مضادّة) تماماً تقريباً لحكمة الماضي اليقينية، بل ترفضها جوهرياً.
ولكي ندلل على ما نزعم، سنستشهد بشذرتين عن موضوع الحب والمحبة، الأولى للجنيد البغدادي والأخرى لكريستيان بوبان. فقد قال الأول: "من علامة المُحِبّ في المكاره والأسقام هيجان المحبة، وذكرها عند نزول البلاء، إذ هو لطف من مولاه، وفيه القربة إلى محبوبه، وقلة التأذي بكل داء وبلاء يصيبه؛ لغلبة الحب على قلبه". بينما تذهب شذرة بوبان إلى أن "لا معرفة خارج الحب. لا شيء في الحب سوى غير المعروف". الفارق جليّ بين المجهول الصوفيّ، والمجهول المعاصر. ثم الطابع الصادم المجتزأ الذي يكاد يكون مقطوعاً عن سياق ما في الشذرة الحديثة، إزاء منطقية السياق وتماسكه في الشذرة العربية القديمة.
هناك عناصر عدة أخرى لا يتسع لها المجال. لكن تتوجب الإشارة إلى الفارق بين الشذرة fragment التي يعرّفها البريطانيون بأنها قطعة أدبية غير مكتمِلة، وجوهرها عند الفرنسيين مُلَغَّز وهرمزيّ كأنها كتابة على شاهدة قبر أو مسلّة، وتعرَّف بصفتها واقعة أو واقعة معرفية. وبين التجزؤ fragmentation الطالعين من الأصل اللغويّ والمفهوميّ نفسه. في الحالة الثانية نحن نقصد تقنية أدبية تُحطِّم النصّ أو القصّ، وتعتبر من سمات ما بعد الحداثة، وترتبط بها تقنيات الكولاج والسرد اللاخطيّ.
الفارق جوهريّ بين مفهوم غير المكتمل inachevé الذي يَسِمُ الشذرة الأوربية (وهو عينه في فن الرسم الحديث، وهذه ليست من المصادَفات)، والولع بالمكتمِل الذي يَسِمُ أدبنا وشذراته والذي علينا التذكير ببعض نتائجه المعروفة: الارتياب من التجريبيّ والانشداد إلى القواعد المعيارية والاحتكام إلى الشاعر الفحوليّ وقبول التصنيف الأدبيّ الصارم المكتمِل بين أديب كبير ومتوسّط وصغير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. قارئه

    رائع وأن بان اختلاف طفيف سببّته بعض العمومية التي انطوى عليها العمود ، لكن نتمنى لأفكاركم مكانا أليق يُحاذيها ، ونتمنى نشر التعليق أيضا .

  2. منتظر السوادي

    مقالة جيدة أتفق معك في بعض وأختلف في جوانب أُخرى. المضمون لا أراه يُحدّد شكليّة النصوص، فنقول الحكمة اليقينية قديمة في نصّ قديم، أما الشذرات المعاصرة كما مع رولان فهي ليست يقينية، هنا رجعنا إلى المضمون لنعرف منه الجنس، لو سألنا: نصّ قديم فيه فلسفة الشكّ و

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram