أسفرت نتائج الانتخابات البرلمانية الكردستانية، الشهر الماضي، عن تراجع نسبي في عدد نواب الاتحاد الوطني الكردستاني، وهي تركت مرارة وخيبة ووجعاً في صفوف اعضاء وكوادر الاتحاد. ورأت فيها قيادة الاتحاد قفزة الى الوراء، مقارنة بما كانت تتوقعه من نجاح وتقدم،
أسفرت نتائج الانتخابات البرلمانية الكردستانية، الشهر الماضي، عن تراجع نسبي في عدد نواب الاتحاد الوطني الكردستاني، وهي تركت مرارة وخيبة ووجعاً في صفوف اعضاء وكوادر الاتحاد. ورأت فيها قيادة الاتحاد قفزة الى الوراء، مقارنة بما كانت تتوقعه من نجاح وتقدم، عالجته بممارسة نقدٍ ذاتي أولي، اكتسب قيمته العالية من إعلانه على الملأ.
ورغم إيجابية النقد الذاتي والتقييم اللذين بادرت لممارستهما قيادة الاتحاد، إلا ان ظلالاً من اللوم المتبادل، المنطلق من المواقف الذاتية، أضعفت ذلك وأظهرته كما لو انه تصفية حسابات شخصية بين الفريق القيادي الذي يُفترض فيه ان يرتقي في مثل هذه الحالات، على المرارات الشخصية، ويركز على المسؤولية التضامنية والعمل على تشخيص العوار المسبب للتراجع ومعالجته بهدوء وحكمة، وتجنب تحويل الخسارة التي يمكن أن تكون وقتية، الى عامل تأزيم الوضع، او تعميق مظاهر أزمة كامنة.
وأي مراجعة تتناول أسباب فقدان رصيد شعبي، عكسته نتائج الانتخابات، تتطلب الغوص في عمق الظاهرة، وليس الالتفاف عليها، بالتركيز على العناصر الثانوية او النتائج العرضية، التي غالباً ما تقود الى استنتاجات تعمق الأزمة، وتحول دون معالجتها.
ان من العبث اقصاء الظروف والعوامل الموضوعية، التي تشكل أساس اي ازمة سياسية. كما يزداد هذا العبث اذا لم يؤخذ بالاعتبار دور العامل الذاتي، على ان لا يخضع للمبالغة او للتفسيرات المخلة.
وفي كل الأحوال، ليس من شأن المعالجة الموضوعية للظواهر الخاصة بالحياة الحزبية، والكيانات السياسية أن تستخلص النتائج الصحيحة، اذا لم يجر التعامل مع الحزب او الكيان بوصفه حياة نابضة تخضع لشروط الكائن الحي، في سيرورته الطبيعية، من الانبثاق والنمو والتطور حتى الشيخوخة. ومثل اي كائن حي، يحتاج الحزب أو الحركة الى عوامل الإدامة والتجديد والحيوية. ومن دون ذلك تكون الغربة عن المجتمع والشيخوخة المبكرة والموت السريري.
(٢)
وتختلف المجتمعات، وفقاً لمستوى تطورها، ورسوخ تقاليدها الأبوية، عن المجتمعات التي انتقلت الى حواضن الدولة الحديثة، الراسخة ديمقراطياً، في تكوين الاحزاب والجماعات والزعامات السياسية. وهي تختلف ايضاً، كلما كانت التقاليد والولاءات العشائرية، والنفوذ الديني والطائفي، متحكمة في مسارات نشوء الاحزاب والقيادات والزعامات التي تتطبع بما تمليه عليها او تكرسه فيها من قيم وعادات وافرازات، تفرض عليها سطوتها التي يصعب الفكاك منها، خارج حركة الحداثة المجتمعية، والتحديث الديمقراطي، وتأصيلهما في اطار ترابط بنيوي موضوعي عميق.
ويرتكب خطأ فادحاً من يسعى دون وعي او دراية، لاستنساخ كيان حزبي نشأ وتطور في ظروف تاريخية مغايرة، او استنساخ توصيف زعامة تاريخية وليدة ظروفها وتعقيداتها وشروط اكتمال دورتها السياسية والحياتية. فالاحزاب والزعامات اذا لم تخضع لمباضع الجراحة الحياتية، بين آن وآخر، وتتجاوز سكونها، فانها بذلك تورد نفسها الى حتفها، وتفقد اي شرط لوجودها واستمرار دورها، وتعبيرها عن نبض مجتمعي وسياسي ومصالح ملموسة.
لقد نشأ الاتحاد الوطني في ظروف بالغة التعقيد، واحتل موقعاً سياسياً له، بفضل عوامل موضوعية شائكة ومتشابكة، لكنه ارتبط أيضاً بزعامة موصوفة، تميزت بالقدرة على التلاؤم مع مجريات التطور السياسي، والتغيرات التي شهدتها الحركة القومية الكردية. ومن بين مواصفات تلك الزعامة التي لم يخبُ بريقها، ونتطلع الى دورٍ أبوي متواصلٍ لها، أنها صُقلت في رحم الحركة القومية والديمقراطية الكردية الموحدة الناهضة، وفي مجرى تدفق عنفوانها، وقد تحولت الى ثورة شعبية، استمدت عناصر القوة والديمومة والاعتراف الشرعي من الشعب الكردي والقوى الوطنية والديمقراطية العراقية. واذا كانت سمات الزعامة و"الكاريزما" القيادية، هي الأخرى، لا يمكن ان تنقطع عن السياق الموضوعي واشتراطاتها، وتقتضي ان يكون انبعاثها تعبيرا عن التناغم والتفاعل مع متطلبات المرحلة السياسية وظروفها والبيئة التي تتحرك فيها، فان سكونها او اعادة انتاج نفسها في ظل مناخٍ مغاير او شروط نضالية متطورة، ضربٌ من الارادوية "الذاتية"، وضياع الفرص.
(٣)
إن الزعامة في ظروف وبيئة العالم الثالث، التي تتعايش فيها أنماط شديدة التناقض، من التقاليد البطرياركية والعشائرية والأنماط المتخلفة الأخرى من صيغ ما قبل الدولة، تخضع لتأثيرات ذلك التناقض ذاتياً، وتصبح مع مضي الوقت اسيرة لبعض جوانبها وحبيسة لقيودها، اذا ما فشلت في التحرر منها.
واحتباس او تحرر هذه الزعامة، يرتبط بمستوى وعيها ودرجة استعدادها لبلورة تكوينٍ سياسي وكاريزما يتفاعلان مع حركة التطور الاجتماعي السياسي، ونضوج الحزب او الحركة التي يتزعمها، وضمان عدم التخلف عن رعاية سيرورتهما الطبيعية، او تخلفهما معاً عن سياق التطور الاجتماعي ومقتضياته. واذا لم يستطع في لحظة تاريخية مواتية ان يحقق ذلك الانسجام والتناغم بين التكوين والكاريزما، تتبدد الظاهرة التي تقوم في اصل الزعامة وظروف ولادتها، ويتفكك التكوين، وينتهي الى ضياعٍ تاريخي، وانطفاءٍ مكدّرٍ لشروط البقاء.
ومثل كل ظاهرة حياتية، يحتاج الحزب السياسي الى إعادة بلورة وتجديد وتحديث، على أن يترافق ذلك مع شكلٍ مناسب من التواصل، والتوارث للجديد، وليس الانقطاع السلبي.
وقد اصبح واضحاً إلى حد كبير ان البيئة الكردستانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والوعي المجتمعي الثقافي، باتت اكثر تطوراً من المنظومة السياسية والاطر الحزبية القائمة. وليس في هذه الظاهرة ما هو غريبٌ او متناقضٌ مع شروط تطور المجتمعات والاحزاب. واذا لم تستطع القوى المعنية، بمختلف مراتبها ومستوياتها، ادراك هذه الحقيقة "الموضوعية" فانها ستجد نفسها، في حالة تناقض حادٍ مع نبض المجتمع وطبقاته وفئاته، وبشكل خاص مع الاجيال الشابة الناهضة التي انقطعت مع الماضي وانماط الحياة فيه، واصبحت تتواءم وتعيد صياغة حاجاتها الحياتية، مع ما توفره ارقى وسائل التواصل الاجتماعي، وتكنولوجيا الاتصالات وعوالمها المبهرة.
(٤)
وفي مثل هذا المناخ السياسي، والحراك الدائر فيه، يصبح أمام الاتحاد الوطني، وقيادته وكوادره، مهام تجاوز الانحسار النسبي لنفوذه، والبحث في العمق، وليس في الحواشي الرخوة في قياداته او أساليب إدارة حياته الداخلية، عن شروط تجاوز قصوره عن الارتقاء الى المستوى الذي يجعل من وجوده السياسي والتنظيمي ضرورة موضوعية، قابلة للتفاعل والتواصل مع القوى التي يرى انه معبرٌ عن مصالحها وتطلعاتها.
وتتطلب ادارة البحث الموضوعي المطلوب للوضع الذي آل اليه الاتحاد الوطني، التجرد قدر الامكان من الاسقاطات الذاتية، ومحاولة تفريغ الظاهرة من عوامل التراكم التي كانت في اساس اي اخفاقٍ او فشل، سواء تعلق الامر بالانتخابات، او التمهيد لها، او نتائجها وانعكاساتها على الاصطفافات القيادية. ولكن من الهام ايضاً اجراء المراجعة في ظل الاوضاع التي تعيشها كردستان، وما يحيطها من تعقيدات وتحديات وما تتطلبه من شروطٍ للتطور والتحديث وإرساء الأسس الوطيدة لقواعد العمل والعيش الديمقراطي.
إن الأحزاب التي تعتمد التغيير او التجديد، بنوازع ذاتية، وبأساليب القسر من خارج الظاهرة، تدفع بنفسها، وما تريد تجديده، إلى شطآنٍ بلا ضفاف، وتعيد من حيث لا تدري، إعادة انتاج صيغ جديدة من الأزمات التي تسعى لتصفيتها من حياتها الحزبية. كما ان التحديث او التجديد، يتحولان الى عناصر إعاقة اذا ما توقف الامر عند المظاهر الشكلية، دون ان يخوض في العمق، ويصمم اعادة هيكلة بنيوية، لا تنافر في قوامها، او قواعدها الفكرية والسياسية والتنظيمية. والحياة الحزبية الداخلية لا يمكن ان تخلو من التناقض والاختلاف وصراع الاراء، ويستحيل على الحزب او الكيان السياسي ان يتطور ويتجدد دون مثل هذا التنوع، اذ يمكن اعتبار الحزب نموذجاً للتنوع في اطار الوحدة.
(٥)
إن الحرص على ترسيخ وحدة الاتحاد الوطني الكردستاني، ومعافاته من اي اثر طارئ، وتفعيل دوره، مطمحٌ كردستانيٌ وعراقي. فقد لعب الاتحاد دوراً مشهوداً في الحياة السياسية للاقليم وفي الدولة العراقية المتآكلة بفعل الغير، وهو مطالب بان يواصل هذا الدور الذي يتعذر عليه القيام به اذا لم يتصدّ بكفاءة ومسؤولية وتضامن قيادي، لأي سبب يدفعه الى الانكفاء او المراوحة في دائرة الإحساس بالانكسار.
إن القامة الوطنية لمام جلال الذي يتابع المشهد، وهو يسعى لينهض من كبوته الصحية ويتعالى عليها، يتطلع أن يتداعى كل اتحاديٍ ويضع نصب عينيه مصالح شعبه، واستشرافات مستقبله، الى الاسهام بكل جهد مهما كان مضنياً، ويتعالى مثلما يفعل هو في مداراة مرضه، للنهوض بالاتحاد، وترصين وحدته، وإعادة تجديد بنيته، في الحملة الفكرية والسياسية والتنظيمية، تحضيراً وتمهيداً لإنجاح المؤتمر القادم.
ان المأثرة التي ظل يؤكد عليها المام، في السنوات الاخيرة، هي الالتزام بوحدة الاتحاد، وتعزيز التحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، والعمل على ارساء اسس النظام الديمقراطي الاتحادي التداولي في العراق.
ومن وجهة نظري، فان المأثرة الرائدة للصديق الاثير مام جلال، هي شجاعته واقدامه، على نقد أخطاء الماضي، وتصحيحها في الممارسة العملية.
جميع التعليقات 1
naji zlezel
هل كان كذلك حقا ياسيدي العزيز ؟ أم كان نسّاج مؤامرات حائك دسائس انتهازي من طراز رفيع متقلب الهوى مع مصالحة بائع قضايا وأصدقاء برسم البيع لعدو عدوه ..وماذا كانت النتيجة؟ بل ماذا ستكون لحزب من هذا النوع ..التفكك وانحلال والموت بموت عرابه ..أليس التحليل الما