اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هل ثقافة العراق متوسطيّة؟

هل ثقافة العراق متوسطيّة؟

نشر في: 8 نوفمبر, 2013: 09:01 م

لعل دراسة الفيلسوف الفرنسيّ أدغار موران "التفكير بالمتوسّط وجعل الفكر متوسطياً" واحدة من الدراسات الرصينة عن مفهوم المتوسطية. لم يغفل موران العناصر المشترَكة، التاريخية والإنسانية والاقتصادية والجيو- سياسية على ضفاف المتوسط الثلاث، الأوروبية والآسيوية والأفريقية، ويُعلن منذ البدء المفارَقة العليا: "الديانات الثلاث للمتوسط تنتمي للرب نفسه، لكنه هذا الرب الواحد مقسَّم إلى ثلاثة أرباب توائم، وجوه ثلاثة للأمر نفسه تتنازع على شرعيةٍ سماوية ودنيوية، كل واحد منها يزعم امتلاكه النطق بالناموس الحقيقيّ، وكل واحد منها يُوْجِب، بطريقةٍ احتكارية أكثر مما هي توحيدية، العبادة الحقة". ويرى أن الخصومات على ضفاف المتوسط انبثقت بعد اختراع الدولة – الأمّة في أوروبا نفسها وانتشارها في كل مكان بعد ذلك، متخذةً أشكالاً متعدّدة، منها الدينية والقومية.
اليوم يُعْلَن أن مفهوم المتوسطية هو رغبة مشتركة لبلدان تُشَاطِئ المتوسط بالانتماء إلى ثقافة مُتماثِلة ذات جذور تاريخية تقوم على التبادُل المتناوَب للحضارة والأعراق وحتى على نسق متشابهة من الطعام. يصير المتوسط بحيرة تسكنها عائلة كبيرة تختلف هنا وتلتقي كثيراً هنا وهناك. هذا التوصيف شبه الموضوعيّ، يسعى لطمر البعد السياسيّ الراهن، والستراتيجيّ المُضْمر، في مفهوم المتوسطية.
وفي الحقيقة كانت السيادة والهيمنة السياسية والعسكرية تحدّد الطابع الثقافيّ للبحيرة المتوسطية، وليست النوايا الحسنة، بحيث يَفْرض المُهيمن معتقداته وقيمه على قطاع واسع من سكان المتوسط. هذا ما حدث تماماً في حقبة الازدهار الفينيقيّ الذي بسط ثقافته بين الأعوام 1200 إلى 300 ق.م. على مدن القارة الإيبرية وامتد حتى روما، ومثله الازدهار القرطاجني – البونيقي المعروف الذي أخاف روما عسكرياً وثقافياً، فسعت إلى القضاء نهائياً على سطوة قرطاجة ودمرتها. الإمبراطورية الرومانية أيضاً لم تبسط ثقافتها أو جزءاً من ثقافاتها وفنونها الجميلة والمعمارية في حوض المتوسط (بل في شطر كبير مما نسميه اليوم بالشرق الأوسط) إلا عنوة.
هناك أمر لا يشك أحد اليوم به: إن هيمنة عسكرية وسياسية قد نجم عنها تداخُل واختلاط ثقافيّ، في الماضي والحاضر. هكذا جلبت جميع أنواع الاستعمار معها قيماً جديدة وتلاقُحاً ثقافياً إيجابياً لم يكن ممكناً بدونها: الرومان في جميع المواضع التي استوطنوها والصليبيون في منطقة الشرق الإسلاميّ إبّان فترة الحروب الصليبية، والمسلمون أيضاً في البلدان التي افتتحوها.
هل بلد مثل العراق متوسطيّ أم غير متوسطيّ ثقافياً؟. وما هو الفارق الثقافيّ الجوهريّ بينه وجارته بلاد الشام المتوسطية؟. لا فوارق تُذكر إلا البديهية التي لا تشكّل أي قطيعة معرفية وأخلاقية وتاريخية. هنا تبدو المتوسطية وكأنها تتعلق بأمر آخر غير ثقافيّ، أمر جيو – سياسيّ بالأحرى، يُوفَّرَ العراق فيه لمنطقة وستراتيجيات سياسية أخرى، لا شأن للثقافة بها. لهذا السبب لم يُدْخَل العراق في "الشراكة الأورو - متوسطية" أو "الاتحاد المتوسطيّ" ولا في جلّ "الفعاليات الثقافية" المتوسطية مثل حقوق الإنسان والألعاب الرياضية والنشاطات الشعرية، لأن هدف صانعي المفهوم الأوروبيين، هو "خلق منطقة سلام واستقرار في حوض البحر المتوسط" كما جاء في (عملية برشلونة)، وليس هدفاً ثقافياً كما توحي الكتابات الراهنة. هذا الهدف قد يكون مسعى سياسياً بعيد المدى من أجل دمج إسرائيل مثلاً في المنطقة. من المفارقات الطرفوية التي تُجْلِي ذلك أن ليبيا القذافي قد استبعدتْ لوقت طويل عن المتوسطية، رغم وقوعها الكامل في حوض المتوسط، بينما اشترط الاتحاد الأوروبي في أكتوبر/تشرين الأول عام 2000 عليها قبول إسرائيل لضمّها إلى ''الشراكة المتوسطية''.
في مفهوم المتوسطية خلطٌ لأوراق السياسة بأوراق الثقافة، بحيث يبدو السياسيّ مُبرَّراً، بقوةٍ ورصانةٍ، بالبراهين الثقافية المتماسِكة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. فاارس

    مشاركة

  2. farid

    الأخ لعيبي ماذا دهاك ثقافة العراقي عربيةممتدةمع المحيط الأبيض المتوسطي والشرق الفارسي...كيف ذلك العراق حضارةالعالم القديم المستقبلة للاقوام بلا منازع ..وحضارة الأمة الاسلامية والعربية في أعلى مراحل تطورها وتقدمها على كافةالمستويات... ماذا نستنتج... هي خلي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram