نحسب أن جيلاً جديداً من الكتاب والشعراء العرب، قد أفرط في ذمّ البلاغة، وكتب عن ذلك كثيراً بصوت عالٍ، وبثقة زائدة عن الحدّ، وتحت تأثيرين اثنين في الأقل: الأول مدرسيّ، والثاني مرتبط بالمفاهيم السريعة، الشائعة صحفياً عن (الحداثة).
ففي العالم العربيّ تمَّتْ دراسة علوم البلاغة بطريقة لا ترتبط بروح العصر، وقد أثقلتْ فعلاً بالتبجّح وتمجيد الماضي، والوقوف عند شواهده وحدها، والكثير منها بعيد عن الاستخدام الحياتيّ، وضارب في الموت. على يد أساتذة لا يؤمن بعضهم بالجديد، ويرفض جلّ حركات الحداثة في الأدب، أو يشكّك بمغزاها وجدواها. إن الفترة الأساسية في تعليم المرء، المتوسطة والثانوية في العراق، تشكّل في الشرط الموصوف عنصراً جوهرياً في التكوين المفهومي والمزاجيّ اللاحق الذي نستطيع الافتراض أنه كوَّن أجيالاً من الطلبة الناظرين بعين مريبة للبلاغة.
في الوسط الثقافيّ، وهنا الأمر الثاني، أشيع في فترة من الفترات على يد بعض الصحفيين والكتّاب والشعراء تقديم وصفات جاهزة، مُبْتسَرَة، قليلة العمق لمفهوم (الحداثة). فبدت الرغبة بالتجاوُز واستحثاث دوافع معاصِرة للخلق وكأنها تحطيم مجانيّ ليس للبلاغة وحدها وإنما للنحو العربيّ أيضاً، وبتأثير بعض أفكار الفقيد هادي العلوي المجتهِدَة العميقة عن اختصار حركات الإعراب روّج آخرون لبعض الجهل بقواعد اللغة العربية. لقد بدت الحداثة والحالة هذه سلسلة من المُبرّرات المُحْكَمة للقصور الذاتيّ في المقام الأول، ثم سلسلة من الممارسات العملية لفهم مخصوص لتلك (الحداثة) العتيدة التي يتشبث الجميع بأهدابها.
اليوم تُستخدم مفردة (بلاغة) بنوع من التهمة المُبَطَّنة أو الصريحة. ويقع رفض لها في حالات عدة. لا نفهم دائماً السبب. ونظنّ أن هنا مدلولاً جديداً ممنوحاً لها، تصير فيه المفردة رديفاً لما هو مُثقَل وثقيل ومُتقعّر. وهذا ليس قط معنى المفردة في العربية والفرنسية والإنكليزية والروسية واليابانية مثلاً.
في العربية عرّفَ الفراهيدي البلاغة بالقول: "ما أدّى إلى قضاءِ الحاجةِ فهو بلاغةٌ، فإن استطعت أن يكون لفظُك لمعناك طبقاً، ولفلكِ الحالِ وَقْعَاً...". في الفرنسية بلاغة أو فصاحة (éloquence): أسلوب التعبير بيُسْرٍ، وفن التأثير [العاطفي]. وفي الإنكليزية: خطاب يتميّز بقوة الإقناع، وفن أو سطوة استخدام هذا الخطاب. وهي أيضاً: ميّزة التعبيرات الفعّالة والمُقنعة. وفي اليابانية: السيطرة على اللغة بشكل فاعل ومُقْنِع (وغالباً خلافا للأسلوب الرنّان المتقعّر pompeuse).
صحيح أنّ الشعر ليس محض استخدام بلاغيّ، خاصة ليس استخداماً لتلك الصيغ المدرسية الجامدة، لكن الصحيح أيضاً أنه نوع فريد ورفيع من الاستخدام البلاغيّ بالمعنى الذي نشير إليه هنا. لا يمكن أن تكون جميع ضروب الشعريات سوى أسلوب مغاير للتعبير يستهدف إيقاع تأثيرات انفعالية قوية لدى القارئ، مُسْتخدماً من أجل ذلك جميع الأشكال الممكنة التي تيسِّرها له الصيغ البلاغية، من استعارة وكناية وطباق وتشبيه وجناس وتورية ونحو ذلك. لا تستطيع المخيَّلة الحضور دون الأدوات التي تسمح لها بالتعبير عن نفسها، وهذه الأدوات تقع في تلك الصيغ اللغوية والبلاغية دون شك. أنْ تكون أمثلتها قديمة أو مُحايثة، مُجْترّة أو خلاقة أمرٌ لا ينفي أننا نعود إليها هي نفسها وليس إلى شيء سواها.
في بداية حياتنا الشعرية وقع تحذيرنا مراراً، مباشَرة ومداوَرة، من استخدام (الصفات) و(أدوات التشبيه). اليوم نرى أن القاعدة الذهبية هي "الشعرية" فحسب: التوازُن في جميع الاستخدامات بشكل يُجْلي ويُصَعِّد حالةً، جوهراً شعرياً، تصير فيه جميع الاستخدامات مقبولة بما في ذلك التنغيمات الصوتية العالية إذا استوجب الأمر.
لَكَم نكرهُ (البلاغة)..
[post-views]
نشر في: 13 ديسمبر, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...