TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > لَكَم نكرهُ (البلاغة)..

لَكَم نكرهُ (البلاغة)..

نشر في: 13 ديسمبر, 2013: 09:01 م

نحسب أن جيلاً جديداً من الكتاب والشعراء العرب، قد أفرط في ذمّ البلاغة، وكتب عن ذلك كثيراً بصوت عالٍ، وبثقة زائدة عن الحدّ، وتحت تأثيرين اثنين في الأقل: الأول مدرسيّ، والثاني مرتبط بالمفاهيم السريعة، الشائعة صحفياً عن (الحداثة).
ففي العالم العربيّ تمَّتْ دراسة علوم البلاغة بطريقة لا ترتبط بروح العصر، وقد أثقلتْ فعلاً بالتبجّح وتمجيد الماضي، والوقوف عند شواهده وحدها، والكثير منها بعيد عن الاستخدام الحياتيّ، وضارب في الموت. على يد أساتذة لا يؤمن بعضهم بالجديد، ويرفض جلّ حركات الحداثة في الأدب، أو يشكّك بمغزاها وجدواها. إن الفترة الأساسية في تعليم المرء، المتوسطة والثانوية في العراق، تشكّل في الشرط الموصوف عنصراً جوهرياً في التكوين المفهومي والمزاجيّ اللاحق الذي نستطيع الافتراض أنه كوَّن أجيالاً من الطلبة الناظرين بعين مريبة للبلاغة.
في الوسط الثقافيّ، وهنا الأمر الثاني، أشيع في فترة من الفترات على يد بعض الصحفيين والكتّاب والشعراء تقديم وصفات جاهزة، مُبْتسَرَة، قليلة العمق لمفهوم (الحداثة). فبدت الرغبة بالتجاوُز واستحثاث دوافع معاصِرة للخلق وكأنها تحطيم مجانيّ ليس للبلاغة وحدها وإنما للنحو العربيّ أيضاً، وبتأثير بعض أفكار الفقيد هادي العلوي المجتهِدَة العميقة عن اختصار حركات الإعراب روّج آخرون لبعض الجهل بقواعد اللغة العربية. لقد بدت الحداثة والحالة هذه سلسلة من المُبرّرات المُحْكَمة للقصور الذاتيّ في المقام الأول، ثم سلسلة من الممارسات العملية لفهم مخصوص لتلك (الحداثة) العتيدة التي يتشبث الجميع بأهدابها.
اليوم تُستخدم مفردة (بلاغة) بنوع من التهمة المُبَطَّنة أو الصريحة. ويقع رفض لها في حالات عدة. لا نفهم دائماً السبب. ونظنّ أن هنا مدلولاً جديداً ممنوحاً لها، تصير فيه المفردة رديفاً لما هو مُثقَل وثقيل ومُتقعّر. وهذا ليس قط معنى المفردة في العربية والفرنسية والإنكليزية والروسية واليابانية مثلاً.
في العربية عرّفَ الفراهيدي البلاغة بالقول: "ما أدّى إلى قضاءِ الحاجةِ فهو بلاغةٌ، فإن استطعت أن يكون لفظُك لمعناك طبقاً، ولفلكِ الحالِ وَقْعَاً...". في الفرنسية بلاغة أو فصاحة (éloquence): أسلوب التعبير بيُسْرٍ، وفن التأثير [العاطفي]. وفي الإنكليزية: خطاب يتميّز بقوة الإقناع، وفن أو سطوة استخدام هذا الخطاب. وهي أيضاً: ميّزة التعبيرات الفعّالة والمُقنعة. وفي اليابانية: السيطرة على اللغة بشكل فاعل ومُقْنِع (وغالباً خلافا للأسلوب الرنّان المتقعّر pompeuse).
صحيح أنّ الشعر ليس محض استخدام بلاغيّ، خاصة ليس استخداماً لتلك الصيغ المدرسية الجامدة، لكن الصحيح أيضاً أنه نوع فريد ورفيع من الاستخدام البلاغيّ بالمعنى الذي نشير إليه هنا. لا يمكن أن تكون جميع ضروب الشعريات سوى أسلوب مغاير للتعبير يستهدف إيقاع تأثيرات انفعالية قوية لدى القارئ، مُسْتخدماً من أجل ذلك جميع الأشكال الممكنة التي تيسِّرها له الصيغ البلاغية، من استعارة وكناية وطباق وتشبيه وجناس وتورية ونحو ذلك. لا تستطيع المخيَّلة الحضور دون الأدوات التي تسمح لها بالتعبير عن نفسها، وهذه الأدوات تقع في تلك الصيغ اللغوية والبلاغية دون شك. أنْ تكون أمثلتها قديمة أو مُحايثة، مُجْترّة أو خلاقة أمرٌ لا ينفي أننا نعود إليها هي نفسها وليس إلى شيء سواها.
في بداية حياتنا الشعرية وقع تحذيرنا مراراً، مباشَرة ومداوَرة، من استخدام (الصفات) و(أدوات التشبيه). اليوم نرى أن القاعدة الذهبية هي "الشعرية" فحسب: التوازُن في جميع الاستخدامات بشكل يُجْلي ويُصَعِّد حالةً، جوهراً شعرياً، تصير فيه جميع الاستخدامات مقبولة بما في ذلك التنغيمات الصوتية العالية إذا استوجب الأمر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram