وجد صدام حسين في القتل هواية نقلته من مجرد صبي مشتبه بتكوينه، إلى حاكم مطلق الصلاحية، تصبح الدولة تحت سلطته جهازاً متكاملاً طوع هوايته. لم يكن تحوّله مذ تدرّج بارتكاب الجريمة خارج سياقات تكوينه المعقد، أو اندفاعة صبيانة ساقته إلى مساراتها أخطاء غير م
كانت الجريمة هي الوسيلة الأمثل لتمكين البعث من الصعود الى السلطة، واغتيال العراق عبر عمليات تعذيب وترويع دامت عدة عقود، وتواصلت بصيغ اخرى حتى يومنا هذا. وقد تركت السيرة الجنائزية المشبعة برائحة الغدر والموت للطاغية بصماتها على المشهد العراقي، وتعذرت إزاحتها رغم مرور عشر سنوات على إسقاط الطاغية نفسه، وانهيار دولته وتشتت حزبه.
خلال سني الطغيان التي غطت نحو أربعة عقود متصلة، عاش العراقيون فصلاً تراجيدياً، لا سوابق له في تاريخهم. فالموت اصبح سراً يعتبر تداوله بين اهالي القتيل جريمة عقوبتها القتل. فمع ان النظام لم يكن يخفي الجريمة او يعفي نفسه من ارتكابها، بل كان يتعمد إشاعة واقعتها وتداولها همساً، باعتبارها وسيلة لتعميم أجواء الخوف والرعب في المجتمع، لكن ذلك لم يكن يعني جوازاً للنعي واعلاناً لأسباب الموت. ان طقوس الموت تحت التعذيب والتصفيات الجسدية للمعارضين يقتضي تسجيلها باعتبارها قضاءً وقدراً، او مثلبة وإثماً، يتطلبان مواراة الجثمان بلا أي مراسيم عزاء او مناحاتٍ عائلية.
طوال حكم البعث كانت صحف المعارضة تنشر في زاوية من الصفحات الإعلانية، واستثناء، في مكان غير بارز في الصفحة الاجتماعية أخباراً عن وفيات غير مسببة، فجائية ، تميز بعضها باطر سوداء، إشارة إلى مصيبة داهمة.
كان الموت سرياً، والعزاء نحيباً مكتوماً خلف الأبواب الموصدة والجدران المحمية بالصمت المريب، والنعي بضعة اسطر، لا يثير الريبة، ويوحي بما لا يحمد عقباه لمن بقي من الأحياء..!
بعد عشرة أعوام عجاف على سقوط الطاغية وانتهاء مراسيم الموت السري والنعي المريب، صار القتل على الهوية والاغتيال بالكواتم والتعازي مراسيم علنية تغطي اماكن بارزة في الصحف ووسائل الإعلام، ولافتات سوداء تحتل كل الجدران على مساحات المدن الكبرى، بل ان ترويع المعزين من ذوي القتيل والضحية والاصحاب تحول هو الاخر الى مهرجانات للقتل بالمفخخات والانتحاريين الملاعين.
صار مشهد القتل والتشييع والنعي علنياً، ومواكب العزاء طقساً بارداً يغمره الإحساس بأن الموت يخيم على كل المعزين، مما يخفف من المصاب، ليصبح المعزي فيها نفسه في انتظار الموت.
خلافاً لعهود الدكتاتوريات المنهارة، اكتسب الموت الآن طابعاً جماهيرياً في ظل "مأتم الديمقراطية"، ولم تعد الدولة تغطي على أسباب الموت، بل هي تشارك في النعي والتعازي، وتضفي عليها مهابتها، وهي تتوعد وتنذر القتلة، ومن جانب خفي تؤشر لمن يتورط في خلق ملاذات آمنة للقتلة، وتضفي على مهابة الموت رطانة السياسة المبتذلة، ودوافعها وأطماعها وأهدافها، على حساب كل ما يؤدي الى تداركها ومطاردة أشباحها التي صارت تتقاسم خبزنا اليومي وتتطفل على حياتنا الشخصية أنّى اتجهنا، او كيفما حاولنا تجنب مواكب الأحزان وصروفها.
القاتل في زمن الطاغية كان يعبث بحياتنا، ويعتبرها جزءاً من بضاعة مستهلكة من مملكته، فيحصدها وفقاً لأهوائه ونزواته، عبر حروبٍ ومجازر او في احتفالات سرية للثأر والضغينة المتراكمة وتبديد الاوهام والشكوك.
والقتيل في مأتم زمن الديمقراطية، يتحول هو الى منصة لأهواء السلطة ومطامعها، والمشتبه بالقتل، والقيم على الضحية. وقد يبدو القتيل في نظر المغويين بالسلطة ضحية غياب وعيه وضعف إدراكه، بما يحيطه من مظاهر الخديعة وأسباب التلاعب بمشاعره وأوهامه.
ودون ان نستدرك في كل لحظةِ تحوّلٍ سياسي تداهم المتحفزين لتطويع السلطة ومآربهم الدفينة، فإننا ننساق وراء مشاعر وانحيازات تتهاوى أمام سطوة العقل وحكمته اذا ما عدنا للاحتكام الى منطقه وهدايته وأنواره.
إن الدولة في زمن المآتم الجماهيرية وفي ظل ديمقراطية الفاشلين، لا تلقي بالاً للضحايا، بل تتحفز لتسويقهم في مهرجان التسابق الى مراتع السلطة المغرية، كلما قَرُب موعد الانتخابات وما سيتقرر على ضوء نتائجها، من انزياح الطامعين بتجديد عقود الاستيلاء على السلطة، ونهب ما تجود به خزائنها المعفاة من الرقابة.
وبين زمنين، لم يختلف مشهد القتل والتصفيات الجسدية، سوى ان طقوسها كانت سراً مباحاً لاثارة الرعب والترويع، وتركيع الشعب تحت جناح البعث الصدامي، لتتحول مآتمها الى منصاتٍ ومحفزات لإشاعة الوهم وتخدير الوعي، بهدف تكريس فريق استطاب التماهي مع الفشل.
والمفارقة في زمنٍ فقدنا فيه الرضا، وتعودنا على الرضوخ لنوازع العواطف الرثة، والانحيازات خارج سيادة العقل ومنطقه، وقبلنا بفروض السمع والطاعة لأمراء الطوائف والمحاصصة المذهبية، اننا نحتمي بجيش يعجز عن حماية نفسة، واجهزة امن تعبث بأمننا وغفلتنا، وحاكمٍ استمرأ الفشل، فصار له عنواناً، وبدلاً من الاحتجاج على الهوان، يبدو ان الهوان صار لنا قسمة ونصيباً..!
الحاكم، وقد اقترب موعد الفصل بين الفرقاء في الانتخابات، قرر ان يعلن صولة حاسمة لردع الإرهاب، فيزيد عديد القوات المسلحة، ويستعيد ما انقطع من حبال الود مع الصحوات، فيستعجل ضمها من جديد واسترضاء من بيده امر إعادتها الى صف المصالحة والتصدي الى الارهاب..! ولكن من أين يبدأ التصدي، وكل زاوية في البلاد تئن من جراحاتها، وتنكمش على نفسها كمداً وقلقاً، والقتلة تزداد شكيمتهم في كل حادث هروبٍ جماعي..؟!
جميع التعليقات 2
الدكتور محمد معارج
انه بحق كلام يعبر ولكن بألم عن واقع معاش بل واصبح جزء من حياتنا بكل اشكاله من السيطرات التي نبتدأ بها صباحنا وحتى المنام . ولكن المؤسف والاكثر ايلاما هو الركض وراء السراب من قبل نسبة كبيرة من شعبنا نتيجة غياب الوعي والانانية التي زرعها النظام المقبور ، و
ابو سجاد
الحقيقة استاذ فخري الشعب العراقي لم يتعود على الرضوخ ولم يقبل بفروض السمع والطاعة لامراء الطوائف والمحاصصة المذهبية والدليل على ذلك الرفض الشعبي الكبير لهؤلاء الساسة السذج ولكن لاتوجد في الساحة قياداة تقود هذه الجماهير نحو التغيير كسفينة بلا ربان تتقاذفها