(2 – 2)
قلنا في الأسبوع الماضي إن استذكار وتأمل الصور الفوتوغرافية التاريخية العراقية، إنما هو فعل يستهدف إعادة بناء الذاكرة البصرية، فهي تساعد على امتلاك تصوُّر أدقّ عن تاريخ البلاد والعباد، ومفيدة في تواصل الأجيال. جميع الفترات السياسية مارست طمساً (للبَصَريّ). وكانت أشدّ الأوقات حلكة زمن البعث الذي قرّر أن لا وجود لبَصَريّ غير بَصَريّه.
كانت الصور الفوتوغرافية المنشورة فترة البعث المتعلّقة بالفترات السياسية والشخصيات السياسية الوطنية، محسوبة حساباً دقيقاً، وفي لحظة من اللحظات ظننا أنها الصور الوحيدة الموجودة، لنكتشف بعد سقوط النظام آلاف الكليشهات الفوتوغرافية لعبد الكريم قاسم والجادرجي وفهد ومحسن الحكيم ويهود العراق وصابئته وغيرهم ممن كان يجري طمسهم عمداً.
جميع الأفلام الوثائقية عن شخصيات العراق وأدبائه وسياسييه التي نراها اليوم على الفضائيات تُدْهِش المرء عن حجم الغياب والتغييب المقصود السابق. كانت الرقابة على الصورة تطول أيضاً شعراء أساسيين في تاريخ العراق السياسيّ الحديث، كالجواهري ومظفر النواب، بحيث أنها كانت تختار للجواهريّ صوراً قليلة توافق مزاجها، بينما تمنع صور النواب.
لقد فهمت السلطة بالخبرة والمران قوّة الصورة، وقدراتها على التأثير في الرأي العام، وفي صياغة أيديولوجيتها وأباطيلها. وفي العودة إلى يهود العراق بصفتهم مثالاً على الطمس النابع من أيديولوجيا قومية مرتبطة بفهمٍ مريبٍ للدين، فإن تغييب البعث لصور حتى رجالات الدين اليهود العراقيين نهائيا في آخر فتراته، جعلتْ جيلي والأجيال اللاحقة لا تتلمّس ولا تدرك بالشكل الكافي الظلم المحيق الواقع على تلك الشريحة العراقية الكبيرة. تغييب الصورة هنا بليغ لأنه يعبّر عن جبروت الطمس. وأحسب أن الصور التي التقطتها ماريان أوكنور marian o'connor قد قدّمت وثائق فوتوغرافية مهمّة عن يهود العراق في أربعينات القرن الماضي، وهي اليوم من ملكية (The Royal Geographical Society Picture Library).
العودة الحالية المحمومة للصور القديمة، الانبهار بها، ترويجها في وسائل التواصل الاجتماعيّ ذات دلالة: إننا نعيد عبرها اكتشاف الذات التي غاب جزءٌ منها لوقت طويل، ناهيك عن أننا نعيد استخدامها لتعزيز فكرةٍ أو موقفٍ أو شخصيةٍ غُيِّبت بدورها أطول مما يجب. الصورة ذات معنى وسيميائياتها لم تعد بعيدة عن بال أحد من المثقفين اليوم. ومثلما استخدمت الأنظمة المتعاقِبة على العراق (الصورة) لتوطين نفسها، تستخدمها الآن الأحزاب والأشخاص والجماعات المتعارِضة فكرياً للهدف نفسه. الفارق هو احتكار تلك الأنظمة للبَصَريّ وطمس ما لا يعجبها، في مُقابِل (دَمَقْرَطة) حالية له. وفي الواقع الجديد فإن مواطن إساءة الاستخدام ومزالقه لا تقلّ خطورة عن الاحتكار القديم.
الصورة تكتب التاريخ. أو (تعيد كتابة) التاريخ كما قيل، على أساس أنها لا تخطئ وثائقياً. وهذا أحد أسباب الإلحاح الفائق للعادة على استخدامها طمساً أو تزويراً أو انتقاءً أو تدخُّلاً. ولطالما وقع، طيلة فترات العراق السياسية الحديثة، فعل التلاعُب بالصورة، من أجل التلاعب بعقول العراقيين والعرب. لم يكن الأمر ممكناً على الدوام، فإن ردة فعل الناس في بلداننا على التلاعُب بالفوتوغرافيا غير المرغوب بها، وتضخيم المرغوب بها (وكلاهما بولغ بهما لدينا أكثر مما يحتمل العقل) كانت ضَرْبَ صور صدام حسين الفوتوغرافية أو تمزيقها أو إطلاق الرصاص عليها، ضمن فعل رمزيّ كأنه يثأر لطمس طويل لصوره المحبوبة. وقد وقع الأمر نفسه تماماً في مصر مبارك وتونس بن علي وليبيا القذافيّ... وقعت ردة الفعل عينها حرفياً في هذه البلدان كما رأينا بأمّ أعيننا.
يا للذاكرة البصرية!