في تزامن ملفت تجاور الإسلام الحداثي وأُطر الإسلام السياسي الأصولي وبواكير حوامل النزوع السلفي المتطرف في أعقاب انهيار الدولة العثمانية، ونشوء الدول شبه المدنية على أنقاضها، بتدبير من بريطانيا وفرنسا وما ابرم من اتفاقيات ومعاهدات تقاسمٍ للنفوذ.
فورغم المسائل الإشكالية المحورية المعقدة التي اثيرت في تلك المرحلة الحُبلى بالقضايا الكبرى بجرأة تميزت بالتحدي للتابوات اليقينية التي تسللت الى كل مسامات المجتمع المنغلق، فإن السجال بشأنها لم يخرج، الا نادراً واستثناءً، عن حدود الحوار وتبادل الرأي، او التعريض احياناً ليتخذ طابع التنديد. وكان طبيعياً ان يُنَشر كراسٌ بعنوان "الايمان والالحاد" يحمل في متنه، مقالاً لداعية ملحد ورداً ايمانياً عليه يوزَعُ ويُباعُ في المكتبات، ويدور حوله حوار في المنتديات الثقافية، مع ما رافقته من ضجة في الاوساط الاجتماعية وصحافة تلك الايام. كان التسامح الديني مفتوحاً على اكثر الاراء مخالفة للمألوف، في شتى حقول المعارف الدينية والاجتماعية والسياسية وحول التاريخ واحداثه. ومن بين الاحداث الكبرى التي شهدتها مرحلة التحديث والتنوير، دعوة قاسم امين لتحرير المرأة ومعركة الحجاب والسفور واستكشاف طه حسين المعرفي حول الشعر الجاهلي، وما خرج به من استنتاجات رأى فيها البعض هرطقة وفساداً في الرأي، وانتهت بتقديمه الى القضاء وقرار المحكمة بسحب الكتاب من التداول. لكن التسامح وبعد النظر والحفاظ على حرمة الرأي "والرائي" طاول "دار العدالة" وقضاته، وعكس المستوى الثقافي والمعرفي العميق لقضاة تلك المرحلة، وتبدّى بجلاءٍ ووضوح، في مطالعة القاضي الذي تولى محاكمة طه حسين. والأحكام التي بناها في تقييم الكتاب وما جاء فيه من استنتاج غير مألوف، تستحق أن تكون مادة للتدريس في معاهد وكليات الحقوق والقانون، واساساً يمعن النظر فيه القضاة الذين ينظرون في دعاوى النشر والرأي والعقيدة.
ان الانفصام بين المركز الديني وسلطة الدولة واستقلاليته عنها، لم يجرِ التعبير عنه خارج الأطر الرسمية لهذا المركز، بل في الازهر الشريف نفسه، حيث كتب علي عبد الرازق احد اعضاء هيئة الازهر "اصول الحكم في الاسلام"، مواصلاً رسالة محمد عبده وجمال الدين الافغاني ومشايخ كبار، اغتنت الحياة الدينية باضافتهم التحديثية، وعززت من مكانة الاسلام وقربته من ضمائر المسلمين، ورفعت من شأنه في عيون المستشرقين، والكتاب والمفكرين في اوربا والغرب، وصارت لهم مصدرا لإغناء بحوثهم ودراساتهم الاسلامية.
وفي الضفة الاخرى، حيث المرجعية الاسلامية الشيعية العليا، كان الانفصام التاريخي قد اتخذ سبيلاً ضاغطاً لتقويم العلاقة بين السلطة السياسية في ايران "الشيعية" والمجتمع، عبر علماء الدين آنذاك، وكان ابرزهم محمد كاظم الخراساني، المرجع البارز في حوزة النجف، وتوجت هذه الدعوة برسالة النائيني "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" لتقييد السلطة الملكية بدستور، من دون ان يطلب علماء الدين ان يكونوا هم السلطة او الولاية السياسية، بل طالبوا بحكم يستند الى ارادة الشعب المعطلة، فظهر انقسام في الرأي وجدل فكري وسياسي هز الاوضاع التقليدية داخل الحوزة وفي السلطة، نتيجة خروج البعض عن هذا الرأي وما ينطوي عليه من نزوع إصلاحي، واصطفافه الى جانب الإرادة الملكية المتغطرسة.
وقد تبلور الانقسام في المجتمعات العربية - الاسلامية، بأشكال ومستويات ووتائر مختلفة، عكست مستوى تطور الوعي فيها، ودرجة التطور الاجتماعي والثقافي، ودار الصراع حول قضايا محورية، تلعب دوراً حاسماً في تقرير مصائرها، وتحديد وجهة تطورها. ولم تكن تلك القضايا والصراع المحتدم حولها، تدور بعيداً عن تدخل وتأثير المؤسسة الدينية، ورجال الدين، بل كانت تتفاعل وتتحرك، تحت تأثير مواقفهم المبنية على استرجاع مصادر السلف، المحصنة بذاتها، المقصية عن دواعي تغير الاحوال، وتبدل الازمان، او المفتوحة على التلاقح مع ما يفرضه الزمن من قوانين وقواعد للعيش. وفي كلتا الحالتين، كان التأثير على المجتمع وخياراته، فاعلاً ومؤثراً، سواء كان سلباً او ايجاباً، تقهقراً الى الوراء او تقدماً الى مدارج الانفتاح والرقي، واللحاق بركب الحضارة والتقدم الانساني. ومن اخطر تلك القضايا، اضافة الى الدعوة لتحرير المرأة، وحرية الرأي والعقيدة، قضية التعليم بوجه عام وحق التعليم والعمل للمرأة.
ان انفصال الدولة عن المؤسسة الدينية، بل وتشكيلها قوة ضغط من نواتات منها، تضم قامات بارزة، على الدولة وفي المجتمع، تطالب وتشجع على الاصلاح السياسي والاجتماعي، هو أمر أشاع حراكاً مشبعاً بالجدل والتوثب بين طلائع فكرية وثقافية وسياسية، لاثارة المزيد من قضايا الرأي العام، والتجرؤ على الاقتراب من "تابوات"، كان مجرد ذكر بعضها، دون تناولها بالنقد او التعريض بها، يعتبر من كبائر الالحاد والهرطقة.
وكلما جرى تَمَثّل قضية اشكالية، والتعامل معها في اطار الاختلاف في الرأي، واخضاعها للجدل، أُثيرت غيرها لتفتح الابواب على مسارات مشرعة على الانفتاح الفكري والاجتماعي، وتعزز حركة الاصلاح والتحديث، وتعزل القوى الاكثر غلوّاً وانغلاقاً، وتشيع مناخات ارحب لحرية الرأي والاعتقاد والاجتهاد.
ولم يكن لذلك الحراك والنهوض ان يتخذ مدياته المؤثرة، وينتزع المبادأة من قوى التخلف، ويسطّح منطلقاتها الفكرية، لو لم تلتق ارادة التغيير والاصلاح، مع الرياح الفكرية والسياسية التي هبّت على العالم القديم، وهزّت اركانه، وزعزعت القناعة بقيمه ومسلماته في المجتمعات الاكثر تطوراً ووعياً واستعداداً لتلقي الجديد النابض والتفاعل الايجابي معه.
كانت تلك لحظة تحولٍ نوعي في حركة التطور الذي اجتاح العالم كله، ولم تتخلف المجتمعات العربية الاسلامية المنفلتة تواً من قيود الدولة العثمانية، عن ذلك الركب.