لو كان علي الورديّ حياً لشاطرنا، في الغالب الأعمّ، الرأي بإمكانية استخدام مفردة "التغليس" بصفتها أداة اصطلاحية ممكنة وصالحة بل دقيقة للتحليل الاجتماعيّ في العراق، على المستوى العام وفي الشروط الثقافية المُحدّدة.
هم "يغلسون" كما تقول المفردة العراقية، وهي من أصل عربي صحيح، ففي المعاجم: الغَلَس بفتحتين ظلمة آخر الليل التَّغْلِيس السير بغلس، يقال غَلَّسْنا الماء أي وردناه بغَلَس وكذا إذا فعلنا الصلاة بِغَلس. اللهجة العراقية تستخدم هذا المعنى للغاضّ الطرف كأنه سائر بليل وكأنه غير مرئيّ، مُغلّس. الاشتقاق العراقي يُستخدم عينه في مصر والجزائر وربما في بعض مناطق الأردن، مما يبيح إطلاق استخدامه على نطاق واسع.
أولاً: بشكل عام ارتبط المثقفُ التغليسيّ بالسلطة بمعناها العريض، وأحزابها كذلك بالمعنى الضيّق، مباشَرة أو مداوَرة. بالأمس واليوم بالضبط. الارتباط بالسلطة ومنافعها يقود بالضرورة إلى تغليسٍ ما، أو التغليس المُطْلَق. بعد ذلك لديه جميع الأدبيات المعاصرة والدينية والثورية لتبرير تغليسه.
ثانياً: اعتبرَ المثقفُ التغليسيّ مثقفاً آخر ليس تغليسيّاً، عدائياً ولا يمتلك مهارته في اللعب على الأحوال. الثاني الذي ليس دائماً في الواجهة، يعاني من الخسارة، لأنّ المحاججة الزائفة ليست من طبائع وعيه الجوهريّ. وهذا هو الفارق الحاسم، على ما يبدو، بين التغليس واللاتغليس.
ثالثاً: تهمة العدائية هي تهمة المُغلّس لمن يسعى لمواجهة بعض الحقيقة الوجودية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي حيلة سجالية من حيل التغليس.
رابعاً: يظنّ مثقف التغليس أن التاريخ، وتفاصيل الأشياء تمسّ كل مثقف آخر باستثنائه: إنه معفيّ عن المساءلة، لأنه في مُطْلَقٍ مُتوهَّم. في أحسن الأحوال هذا الوعي انتقائيّ، أي تلفيقيّ. شروطه ومصالحاته تستحق أيضاً مساءلة لا يودّ أن يقترب أحد منها. كما أن شروط ومصالح غيره - ونحن على رأسهم- صالحة للمساءلة دون شك.
خامساً: من أكبر أوهام المُغلّس هي أن الوضع المُغلَّس عليه، سيستمر للأبد. هنا يتشاطر الرغيفَ مع مغلَّسي النظام السابق، ويتطابق معهم.
سادساً: عندما نغضّ الطرف عن بُعْدٍ إنسانيّ وهفواتِ بعضنا وأنفسنا وأهلنا وأحبّتنا وحتى مثقفينا، لا يعني أننا مغلّسون، يعني في المقام الأول أننا أخلاقيون ومُحبّون. التغليس أمر لا يتعلق بالإنسانيّ والأخلاقيّ بل الجوهريّ والوجوديّ كما نصفه هنا. الخلط بين هذا وذاك هو تبرير لشرّ التغليس الواعي لنفسه واستراتيجياته بعيدة المدى.
سابعاً: التغليس في بعض وجوهه هو (تقبيح الحسن وتحسين القبيح)، وهذا عنوان كتاب للثعالبي، وفيه مغزى جوهريّ في سياق الأطروحة التغليسية: أن حَرْف الكِلم عن موضعه يطابق التغليس والاستغباء والسجال التمويهيّ. قال الأحنف: "اكرموا الغوغاء والسفهاء؛ فإنهم يكفونكم العار والنار"!. هكذا تماماً يمكن أن ينحو الخطاب التغليسيّ.
ثامناً: يزيد من حنق المغلّس على من يُذكّره بتغليسه استخدام الأدب الرفيع للمُخاطَب والاحترام العالي له، كأن الحوار عن موضوع التغليس أو غيره يستدعي إخراج المُحاوِر عن طوره، لكي يكون نصيبه نصيب الرابح.
تاسعاً: من ستراتيجيات التغليس عدم مناقشة الفكرة نفسها، بل ما يُجاوِرُها. خاصةً إذا كانت الفكرة مُقْلِقة وبراهينها دامغة.
عاشراً: المُغلِّس، كقاعدة عامة، يود أن يُغلّس الجميع مثله.
الحادي عشر: التغليس هو نوع خطير من أنواع (التشبيح)، لأنه تهديد بطريقةٍ لا تقول للعلن خطورةَ ما تُضْمِره في السرّ.
الثاني عشر: غالبية العراقيين والعرب ليسوا من المغلّسين قط. ثمة فئة من أصحاب السلطة والفكر والثقافة تمارس تغليساً لا يليق بمهمتها الثقافية والإنسانية الجوهرية.
الأطروحة التغليسية
[post-views]
نشر في: 7 فبراير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...