تكاد تنفرد تجربة التحول الديمقراطي في العراق عن باقي تجارب العالم من حيث الآليات والنتائج خاصة بعد سنوات طويلة من سيطرة نظام الحزب الواحد على مقاليد السلطة في البلاد , من حيث الآليات فإن الديمقراطية وصلت إلى العراق عبر ممرات ليست سهلة بآليات مع
تكاد تنفرد تجربة التحول الديمقراطي في العراق عن باقي تجارب العالم من حيث الآليات والنتائج خاصة بعد سنوات طويلة من سيطرة نظام الحزب الواحد على مقاليد السلطة في البلاد , من حيث الآليات فإن الديمقراطية وصلت إلى العراق عبر ممرات ليست سهلة بآليات معقدة بعض الشيء ، فالديمقراطية جاءت للعراق نتيجة لسقوط النظام الشمولي على يد تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، فالحرب التي شنتها الولايات المتحدة في آذار 2003 وانتهت في التاسع من نيسان 2010 لم تكن من أهدافها الأولى نشر الديمقراطية في العراق بقدر ما كانت إزالة نظام أربك المنطقة بمغامراته من جهة، ومن جهة ثانية كرد فعل على أحداث 11 سبتمبر 2001 في محاولة أمريكية لإزالة الآثار النفسية التي تركتها هذه الأحداث على الرأي العام الأمريكي ، من هنا نجد بأن الديمقراطية والحكم الديمقراطي لم تكن الهدف الأول والرئيسي للحرب بدليل أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد هيأت فريق عمل بقيادة غارنر لإدارة شؤون العراق لفترة من الزمن ثم يتم بعدها انتقال السلطة للعراقيين ولكن هذا المشروع تغير واستبدل غارنر رجل الإعمار ببول بريمر رجل مكافحة الإرهاب الذي سلم السلطة لحكومة انتقالية برئاسة الدكتور إياد علاوي مهدت لانتخابات الجمعية الوطنية التي أخذت على عاتقها كتابة الدستور العراقي بمواده الـ (139) في أقل من سنة وطرحته للاستفتاء الشعبي .
وافتقدت الديمقراطية العراقية الناشئة ركيزة مهمة جدا من ركائز تدعيم النظام الديمقراطي ألا وهي وجود الأحزاب العابرة للقوميات والطوائف , وبالتالي فإن الانتخابات النيابية الأولى وكرد فعل طبيعي من المواطن العراقي فإنه التجأ للخيارات الطائفية في انتخاب ممثليه وبالذات التوجه نحو الأحزاب الإسلامية كبديل للنظم الشمولية ،وهذه الحالة طبيعية جدا في ظل غياب الأحزاب العلمانية والليبرالية عن الساحة العراقية لعقود طويلة ،لذا يصبح رجال الدين هم وحدهم القادرين على سد الفراغ ،وهذا ما حصل في الانتخابات الأولى باستثناء منطقة كردستان التي تقود العملية السياسية فيها أحزاب عريقة بتاريخها.
أما الانتخابات الثانية التي جرت في السابع من آذار 2010 فإن الناخب العراقي ابتعد كثيرا عن التخندق الطائفي واتجه نحو خيارات جديدة ترتكز على المواطنة وتأسيس دولة الأنظمة والتشريعات والقوانين ،ولكن بالمقابل ظلت الأحزاب غائبة عن الساحة السياسية العراقية بسبب غياب قانون الأحزاب الذي لم يسنه ويشرعه البرلمان العراقي السابق 2006-2010 مما ترك الباب مفتوحا لتشكيل تكتلات وائتلافات لأغراض الانتخابات فقط وربما ينفرط عقدها بعد أشهر من ذلك لأسباب عديدة تأتي في مقدمتها أن هذه التكتلات والائتلافات قائمة على وجود أشخاص بذاتهم استطاعوا الفوز ليس بسبب البرامج الانتخابية وإنما لأسمائهم لأنهم باتوا بحكم الرموز السياسية التي يثق بها الناخبون لأسباب عديدة ،وهذا ما يمكن استقراؤه من خلال النتائج التي أعلنت في محافظة بغداد ،حيث ذهبت غالبية أصوات الناخبين لخمسة أو ستة أشخاص، أما في المحافظات فان نسبة كبيرة من الأصوات ذهبت للقائمة دون التصويت لشخص بعينه، وهذا يعني في ما يعنيه أن غياب الأحزاب وقانونها وبرامجها وأيدلوجيتها قد كرس " الشخصنة " كحالة ليست جديدة في العراق لكنها غير مجدية في الخيارات الديمقراطية ولن تنتج إلا مزيدا من التعقيد في الحياة السياسية العراقية،وهذا ناجم بالتأكيد من النظام الانتخابي في العراق ، هذا النظام الذي لا يوفر أية فرصة للأحزاب الصغيرة في الحصول على تمثيل لها في البرلمان ويكرس تواجد الكتل الكبيرة بكثافة قد تكون متساوية مما يولد صعوبة إن لم تكن استحالة في إيجاد كتلة فائزة بمعنى الكلمة وليست كتلة متقدمة ،وهنالك فرق كبير جدا بين الكتلة الفائزة التي تقوم بتشكيل الحكومة بمفردها وتنفذ برنامجها الانتخابي بالشكل المرسوم له وبين كتلة متقدمة تسعى لتشكيل حكومة ائتلافية ربما تجد نفسها تتخلى عن بعض برنامجها الانتخابي من أجل إرضاء الأطراف الأخرى المؤتلفة معها في الحكومة ، فكيف إذا ما كانت آلية تشكيل الحكومة في العراق تحتاج إلى ثلثي أعضاء البرلمان ،أي بمعنى آخر اضمحلال دور المعارضة البرلمانية أو حكومة الظل كما هو سائد في بريطانيا ودول أخرى ، فلكي تتشكل حكومة يجب أن يصوت ثلثا أعضاء البرلمان بالإيجاب لاختيار رئيس الجمهورية الذي بدوره يكلف رئيس الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة ، ويسبق هذا وذاك اختيار رئيس البرلمان ونوابه .و لذلك فإن عدم وجود كتلة كبيرة تحظى بمقاعد تؤهلها لتشكيل الحكومة سيجعل العراق يدخل في دوامة كل أربع سنوات .وبالتالي فإن المطلوب إعادة النظر بالدستور العراقي وآليات تشكيل الحكومة وحتى نظام الحكم ومناقشة أيهما أفضل :النظام البرلماني أم الرئاسي من جهة ، ومن جهة ثانية مراجعة قانون ونظام الانتخابات الذي يمنح من يحصل على بضع مئات من الأصوات على مقعد لكون قائمته متقدمة وحصدت مقاعد ويحرم من يحصل على آلاف الأصوات التي فشلت في الوصول للقاسم الانتخابي ويهدرها لصالح القوائم الفائزة، الشيء المهم جدا هو ولادة قانون الأحزاب الذي ينظم الحياة السياسية في البلد ويدعم التحول الديمقراطي ، حيث لا ديمقراطية بلا أحزاب .