كان ميلوفان دجيلاس، أحد قادة الحكومة اليوغسلافية، دائخا في مسألتين. الأولى نظرية. والثانية تتعلق بدوستويفسكي. أما المسألة النظرية فهي تفسير الفارق بين كلمتي "شعب" و"أمة". وأراد أن يعرف ذلك من ستالين. وخلال ليلة سمر في موسكو، عام 1948، جمعته مع قادة الاتحاد السوفييتي، طرح دجيلاس سؤال "الشعب" و"الأمة". فبادر مولوتوف، وزير الخارجية السوفياتي الشهير، بالإجابة قائلا ان للكلمتين معنى واحدا.
لكن ستالين لم يوافق على ذلك. وحسبما يروي رجل يوغسلافيا في كتابه (محادثات مع ستالين)، ردَّ ستالين على مولوتوف قائلا: "كلا. هذا هراء. هنالك فارق بينهما. الأمة، أنتم تعرفون ما هي: انها حصيلة الرأسمالية مع بعض الخصائص. أما الشعب فهم عمال أمة ما من الأمم- اي عمال تجمعهم لغة واحدة، وثقافة واحدة، وعادات واحدة".
الجواب محير. فالأمة حصيلة الرأسمالية التي تحاربها الشيوعية. هي إذن فكرة رجعية. أما "الشعب" فهم العمال. بقية "الشعب" لا شيء. قيادة الحزب والدولة الحاضرة تلك الليلة لم تكن تمثل أمة، كما انها من حيث المهنة ليست من الطبقة العاملة، لا في الأصل، أيام كانوا في "النضال السلبي"، ولا في الفصل عندما صاروا حكاما. ولكنهم مع ذلك، ورغم ذلك، يحكمون باسم العمال، أو نيابة عنهم. ولم يكن هناك شعب ولا عمال ولا شيء في ظل حكومة ستالين، لأن كل شيء كان في أحسن الأحوال ظل ستالين.
حيرة دجيلاس الثانية هي إنه يعتبر دوستويفسكي أعظم كاتب في العصر الحديث، ولذلك لم يفهم ولم يتقبل التهجمات الشيوعية عليه. وكانت اجابة ستالين على هذه المسألة هي هذه: "إنه كاتب كبير ورجعي كبير. ونحن لا ننشر كتبه لان لها تأثيرا سيئا على الشباب. ولكنه، حقا، كاتب عظيم".
هنا يبدو ستالين منسجما مع تعريفه لـ "الشعب". دوستويفسكي ليس عاملا، ليس من الطبقة العاملة، ولا يتبنى الفكرة السياسية "التقدمية"، فكرة حكومة الطبقة العاملة. لذلك فهو رجعي كبير. ولا يهم بعد ذلك إنه كاتب عظيم. فالمهم فقط هو ما يخدم السلطة، وفكر السلطة. ما عدا ذلك يشطب بهذه الطريقة أو تلك. ولأن دوستويفسكي كان ميتا، فقد ناله من طرق الشطب منع نشر مؤلفاته. أما لو كان حيا فالله وحده يعلم ماذا كان ستالين سيفعل به.
دجيلاس، الذي كان شيوعيا ودوستيفسكيا معا، سكت. زعيم الشيوعية في العالم زاد الزعيم الشيوعي اليوغسلافي حيرةً. في أيام لاحقة سيكون دوستويفسكيا أكثر منه شيوعيا، فيطرد من حكومة يوغسلافيا ويسجن. ولعله عند ذلك كان قد أصبح حرا. فالسجن نفسه أكثر حرية من الأفكار والمعاني المفصولة عن الحياة، لأن هذا النوع من الأفكار هو سجن وسجان معا. كلُّ فكرةٍ تكون سجنا وسجانا معا اذا أعطيت قيمة أكبر من قيمة الحياة.
لكننا قد نحتار في تفسير كلمة "الحياة"، كما احتار دجيلاس مع الأمة والشعب ودوستويفسكي. فإذا وقعت بيننا مثل هذه الحيرة فمعنى ذلك أننا لازلنا سجناء عند الأفكار سجانين للحياة. الحياة بمعناها البسيط، الذي لا توجد من دونه، الذي هو الحرية. وأظن أن كل "أمة" وأي "شعب" يمكن أن يكون ضحية الكلمات مفصولة المعاني عن الحياة والواقع، وأن يظل كذلك الى أن تنفتح أمامه أبواب الحرية. ألم تكن كلمة "الحرية" ذاتها تتصدر شعارات البعث؟ ألا يشتم "الطائفية" ويشيد بالديمقراطية اليوم ساسة لم يسحبوا في حياتهم نَفَسَا واحداً من خارج فضاء حزب الطائفة؟
ليست القسوة فقط مرآة الاستبداد. الكلمات المفصولة عن معانيها، أي المفرغة في الواقع من مضامينها، مرآة أخرى للاستبداد. ولعل الكلمات أهم لأنها أم الأفعال. ففي البدء كانت الكلمة. وكل السياسات، كل المصالح، لا يكون لها مكان تحت الشمس دون أن تنظم نفسها وتؤنق ذاتها وتعرض أهدافها بأثواب من الكلمات.
حيرة زعيم شيوعي
[post-views]
نشر في: 24 فبراير, 2013: 08:00 م