أنا من الجيل الذي تربى في السبعينات على كلمات الشاعر. وكانت قصيدة "سجل أنا عربي " تمثل لنا نحن تلميذات وتلاميذ مدرسة ........في قرية تمرا في الجليل، النشيد الوطني السري الذي تنساب موسيقاه في قلوبنا وعقولنا وضمائرنا كلما سمعنا النشيد الوطني لدولة إسرا
أنا من الجيل الذي تربى في السبعينات على كلمات الشاعر. وكانت قصيدة "سجل أنا عربي " تمثل لنا نحن تلميذات وتلاميذ مدرسة ........في قرية تمرا في الجليل، النشيد الوطني السري الذي تنساب موسيقاه في قلوبنا وعقولنا وضمائرنا كلما سمعنا النشيد الوطني لدولة إسرائيل.وجاء وقت تعرفت فيه شخصياً على الشاعر في أوروبا، بعد أن عملت في مهنة الصحافة وانتقلت من فلسطين إلى جنيف في سويسرا.
وجاء وقت شجعني فيه الشاعر على متابعة تسجيل اللقاءات التي أجريتها ، والانطباعات التي عشتها ، في فلسطين أيام الانتفاضة الأولى عندما قام بنشر تلك الانطباعات في مجلة الكرمل.وجاء وقت قام بنشر ما كتبته من لقاءات وانطباعات عن أيام الانتفاضة الثانية في مجلة الكرمل.
ثم جاء ذلك اليوم من حزيران الذي كنت فيه في الجليل وشهدت فيه وداع فلسطين للشاعر.
بعد ذلك بأيام ، وعدت بكتابة مقال للعد الخاص الذي تصدره إحدى المجلات الأدبية عن الشاعر. وبعد أيام أخرى قررت أن لا أكتب ذلك المقال.
وفي أكتوبر الماضي سافرت إلى كردستان العراق في مهمة صحفية، وفي تلك الرحلة مارست عادتي في تسجيل لقاءاتي وانطباعاتي بشكل يومي ، وفيما يلي جزء مما كتبت.
(1)
أفاقت مدينة السليمانية وجبالها ما زالت محتفظة بغطاء رقيق من الضباب، بدأ بالتبعثر مع زحف أشعة الشمس، التي ما زالت مبتلة بأمطار تشرين. اغتسلت سطوح البنايات الإسمنتية التي بنيت على عجل، بفضل قانون النفط مقابل الغذاء.
جلس فرهاد على طاولة مع رجلين، كان احدهما يتصارع مع حبة برتقال، رفضت الاستسلام لسكين غير ملائم لقشرة طرية و قديمة، كانوا يتحدثون عن قانون تعدد الزوجات،الذي يشترط على الراغب في زوجة ثانية أن يثبت أن زوجته مريضة وغير قادرة على ممارسة حقوق الزوج أو أن تكون عاقراً. انفجرت البرتقالة بين يدي بختيار، وانتشر عصيرها علي يديه ووجهه وثيابه، ولعن الفنادق في الشرق، التي تدّعي أنها خمس نجوم، وهي لا تساوي نجمتين في أوروبا.
ثم نظر إلى كومة من الملاعق والشوك، وضعها احد الخدم في وسط المائدة، وكأنها ذاهبة إلى التنظيف، وقال: أتوا بمدير من لبنان للفندق، ولكن ما أبعد مستوى الخدمة عن لبنان.
عرفني فرهاد على الرجلين في وسط الحديث، وكأني وصلت للتو.
انتهت أغنية (على باب الله يا صنايعية)، وتبعتها أغنية (ريتا) لمارسيل خليفة. قال الرجل الثاني الذي عرف بنفسه قائلاً أن أسمه سروة: هذه الأغنية من كلمات محمود درويش، هل تعرفينه؟
قلت: "طبعاً أعرفه"ً.
ثم انطلق سروة يحدثني بعينين حادتين صغيرتين، توسطتا وجهاً نحيلاً :" كنت أعتقد أن محمود درويش كرديٌ". وعندما رأى نظرة الاستغراب والدهشة في عيني ،قال:" بدأت قراءة محمود درويش عندما كان عمري اثني عشر عاماً، كان صعباً علي أن أدرك بان هناك من يعاني مثل الشعب الكردي، فاعتقدت انه تحدث عن عذاب الأكراد، وفي ذات يوم ، وعندما كان عمري ستة عشر عاما، كنت في سوق الكتب في طهران، رأيت كتابا عليه اسم محمود درويش،ولكن باللغة العربية، فسألت البائع،" لماذا كتب على الكتاب باللغة العربية، قال لي حينها،لأن محمود درويش عربي من فلسطين".
سكت سروة عن الحديث، ونظر في عيني وانتظر، ثم قال لي همساً:
" بين ريتا وعيوني .. بندقية ".
ثم انحنى ليلتقط حقيبته، وأخرج جريدة عليها صورة محمود درويش، فتحها بين يدين مرفوعتين لكي أرى بوضوح، ثم قال لي : "هل تعرفين شيركو بيكاس"؟ ودون أن ينتظر الإجابة، أردف:" شيركو هو محمود درويش الأكراد، كتب هذه القصيدة في رثاء درويش".
وبحماس ترجم لي :
لماذا مات هذا النهر فجأة؟
لماذا اسودّ تل الزعتر هذا في طرفة عين؟
لماذا ؟ سقطت قصيدة البدر المتلألئ
من سناء حيفا و غرقت في البحر واختفت؟
يا ترى!
ثم نظر نحو فرهاد وقال: "يمكن لفرهاد ترجمة الباقي لك أفضل مني".
لكنه تابع الترجمة وقال:
من هنا
وعلى هذه الأرض المنكوبة لكردستان
من هنا
ومع تبرعم وتساقط أوراق شعرنا
من هنا
وفي هذه الأمسية من شهر أيلول
تذكرت محمود درويش.
يا ترى!
نظر فرهاد متسائلا:"هل تريدين اللقاء مع شيركوبيكاس"؟
(2)
التقيت كاكا شيركو بيكس مرتين، مرة في مكتبه، ومرة ثانية جاءني إلى الفندق لنذهب إلى تناول العشاء معا.ً
في المرة الثانية، قلت له مازحةً:" عندما التقيت بك في المرة الأولى، أهديتني قصيدة، ولم تكن تعرفني، هل كتبت لي قصيدة بعدما عرفتني"؟
سحب من جيب سترته ورقتين، فتحتهما، وقرأت الجزء الأخير :
أكتب بورقة عُشب
فأقرأ غابة.
أرى قطرة مطر
فأسمع زمجرة بحر.
في كفي حبة قمح
وفي روحي يبادر.
أحمل شعرة من ضفيرة حبيبتي
وبجانبي المحبة
عندي بيت واحد من شعر (نالي)
وأملك كردستان كلها!
كان مطعم أبو سناء مزدحماً، عندما لمحوا شاعر كردستان، وقف معظمهم احتراماً، رفع يده بالتحية دون أن ينظر لأحد بشكل خاص، تبعته رافعة يدي بالتحية وكأني نجمة مثله،ونظرت إلى الوجوه بإصرار لا أدري كنهه، لم ألمح وجه امرأة واحدة. عندها لحقت به على عجل. و بسرعة البرق، جهزوا مائدة أنيقة، في ركنً بعيد نوعاً ما، جلسنا على زاويتين متجاورتين.
نظر شيركو نحوي بعينين مبلولتين، وقال لي بعد أن لمس شارباً كان أشقراً، أو صار أشقر:
"تحملني غيمة بيضاء، وتنقلني إلى الأنفال،وكنت أرى الفتيات والشباب المطمورين تحت التراب، وأرى القمر فوقهم، أرى عذابهم حياٍّ بلحمه ودمه، لم يصل ألم الأنفال إلى العالم العربي وكأنهم رأوا حلماً عادياً، إن ألم مذبحة الأنفال لم يختلط بقلوب الآخرين ".
أشعل كاكا شيركو سيجارة للمرة العاشرة في ظرف دقائق، ثم مال علي وهمس بشعر لمحمود درويش:" نسيت إنني قُتلت".
"كانت أميركا تقول بأن الأنفال من صنع إيران، أميركا عملت لصالحها، ومصلحتها مع صدام. أميركا ما زالت تعمل لمصلحتها". "ملف القضية الكردية مفقود، أوباما مهم، لكن السياسة الأميركية لا تنظر في القضايا الإنسانية، سواء القضية الفلسطينية أو الكردية".
جاء النادل وغيرَ المنفضة بأخرى نظيفة، وأراد أن يملأ كأس كاكا شيركو ، لكن كاكا صرفه عن ذلك، فانسحب معتذراً.
وضع شيركو يده على يدي التي كانت تمسك بالقلم، وقال لا تكتبي، لم الكتابة؟ دعينا نقرض الشعر، لكنه أضاف:" هناك قضايا لم تحسم بعد، مسألة كركوك، كركوك هي قدس العراق، ومسألة دولة كردية، كردستان ليست سليمانية ودهوك وأربيل، بعد الحرب العالمية الأولى قسمت المناطق بين النفوذ الفارسي والانجليزي والتركي، كانت الموصل تابعة للدولة الكردية، وألحقت بالعراق قسراً،كل هذه التقسيمات تمت بإشراف عصبة الأمم".
ثم نظر شيركو نحوي متسائلاً،"لماذا يعتقد العرب أن كردستان جزء من العالم العربي؟".
لا ينتظر إجابتي ويسترسل،"إنا لا أومن بالمقاومة المسلحة، إنا أومن بالحوار والتوافق، إنا مع الحوار الفلسطيني - الإسرائيلي، يعيبون على الأكراد علاقاتهم مع إسرائيل، بينما هذه العلاقة لا يختلف مستواها عن العلاقة المصرية أو الأردنية مع إسرائيل! هل هذا حلال لهم وحرام علينا"؟
على صوت أم كلثوم (أعطني حريتي أطلق يديَّ، إنني أعطيت ما استبقيت شياّ). علت أصوات طربت لصرخة كوكب الشرق، استدار شيركو ونظر حوله مبتسماً وقال:"إن الذين لا يحبون أم كلثوم، ما هم إلا أغبياء القلوب".
انتظر شيركو حتى خفتت الأناّت،وتابع:"المثقفون العرب يعدّون الأكراد جزءاً من الوطن العربي، وهذا فكر محدود، عشرون مليون كردي في تركيا، ثمانية ملايين كردي في إيران، ومليون في سوريا، وأربع ملايين في العراق، أي أربعون مليون كردي، صدام وأد ودمر ودفن وذبح مئات الآلاف كانوا يعيشون في أربعة آلاف وخمس مائة قرية، دمرها، وحرق الجبال، حشر ما تبقى في مجمعات سماها بالمجمعات العصرية، كان عليه تسميتها، مجمعات قصرية، أين كان المثقف العربي حين ذاك؟ وأين هو الآن؟ .
اعتقدت بأن شيركو بيكاس سيتهاوى أمامي، أسند ظهره على مقعده، وأنصت بأذنه نحوي، بحثت عن شيء لأقوله، وأثناء بحثي، أسعفتني أم كلثوم:"واعرف حكايات مليانة آهات.. ودموع وأنين".
أغمض عينيه، وكأنه يغفو، لكن ، وكأن شفتيه تمتمتا مع ام كلثوم:
يا ما ظلمتو الحب وقلتو وعدتو عليه، مش عارف ايه...
العيب فيكم، يا في حبايبكم
أما الحب؟! أما الحب؟! يا روحي عليه.. يا روحي عليه".
ومن دون أن يفتح عينيه قال:"العرب يعرفون لوركا، ولا يعرفون شاعراً كردياً واحداً، لا يعرفون شيئاً عن الفن الكردي".
ثم فتح عينيه، وقال وكأنه ما زال يتمم كلمات أغنية الأمل لأم كلثوم:"جميع المآسي التي حصلت في منطقتنا تأتي من الأيديولوجية المتطرفة، الشمولية، ولهذا لن نتوصل إلى أفق رحب، السبب هو الفكر، وليس في الأشكال الأخرى، في إيران يقولون كلنا إيرانيون، وفي العراق يقولون كلنا عراقيون، لكن هل هذه هي الحقيقة؟
صمت شيركو، وأحرق سيجارة بأكملها، قبل أن ينظر لي في عتاب ويقول:"قصائد الشعراء الأكراد تتغنى بفلسطين وبمحمود درويش، أين كانت الأقلام المناضلة في مذبحة حلبشة؟ وهذه نقطة سوداء في تاريخهم،والسؤال لماذا انتم صامتون؟ والصمت للأديب والمثقف هو قبر.
قلت لشيركو مدافعة: "محمود درويش كتب ليس للكردي إلا الريح".
ردّ شيركو:"باللغة انتصرت على الهوية،"
قلت للكردي:" باللغة انتقمت من الغياب"
فقال: "لن أمضي للصحراء"
قلت: "ولا أنا..."
ونظرت نحو الريح:
- عمت مساء
- عمت مساء!
واستدرك شيركو بيكاس" ليس الجميع، سعدي يوسف، هادي العلوي، هناك الكثيرون الذين رفضوا الصمت، لكن هناك الكثيرون فضلوا الصمت، نزار قباني لم يكتب جملة واحدة عن الجرائم التي ارتكبت ضد الشعب الكردي، أنا أيضا أوجه الانتقاد إلى الحكومة الكردية بأنها لم تترجم الأدب الكردي إلى اللغة العربية".
"لماذا أصبح الكردي اقرب للمثقف الألماني منه إلى المثقف العربي"؟ سألني شيركو
إلا انه أجاب على سؤاله بنفسه" في المهرجانات التي تقام في مصر، لا يدعون شاعراً كردياً واحداً، حتى سليم بركات لم يدع، مع انه كتب باللغة العربية، وهو كاتب رائع".
فرغ المطعم من زبائنه، لم يكن في المطعم سوى أم كلثوم التي قالت:" ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم...بعد أن عز اللقاء.. وإذا أنكر خلاً خلَّهُ...."
قال شيركو وهو ينهض"ربما هناك..في كل بلد محمود درويش آخر، محمود درويش كردي".
أجابته أم كلثوم: "ومضى كلٌّ إلى غايته..لا تقل شئنا فإن الحظَّ شاء...."
(3)
وقفت بنت كردية، تحت ضوء القمر الذي اتكأ على كتف جبل، ولوّن أكواخ القرية البريئة. أشعلت عود الثقاب فالتهم ثوبها الكردي المبلول بالنفط.
رفرفت طائرة ورقية فوق اللهب، اختطفت روح الجميلة الكردية، وناولتها هدية للقمر، الذي اشتد ضوؤه وتحول إلى شمس، أيقظ سكان الأكواخ الذين تركوا براءتهم في مخادعهم.
وسألوا ما الخبر؟
قال الأب: تمرد قلبها عليها.
قالت إلام:أراد لنفسه بنتاً مثلها، فقدمها مهراً لأب مثله.
قال الحبيب: الموت لا يعني لنا شيئاً. نكون فلا يكون.
قال الأب:النسيان ضروري لذاكرة المكان.
قال الحبيب:الموت لا يعني لنا يكون فلا نكون.
هذا ما فهمته من فيلم كتبه وأخرجه المخرج الكردي هالكاوت، من بغداد.
"ازدادت حوادث الانتحار بين الصبايا الكرديات، وما أن يهرعوا لمنعها من تمرد قلبها عليها، أو من مقايضتها مقابل صبية مثلها، لمتعة والدي الصبيتين، حتى يشتعل عودا ثقاب في ثوبيهما. ويبقى الحبيب ليحكي قصة الموت على طريقة محمود درويش".
عاد هالكاوت من المنفى، ليحكي في أفلامه قصة موت آخر، لا وقت لأحد ليحكيه للآخرين، ولا مجال في النشرات الإخبارية لهذا النوع من الموت في العراق.
رنا هالكاوت نحو شاب وشابة جلسا في إحدى زوايا المقهى، تشابكت يداهما تحت الطاولة على عجل، بحثت الصغيرة بعينيها لتتأكد بأن أحداً لم يلتقط تلك اللحظة العجولة. لم تلحظ هالكاوت الذي سارع ليلتفت نحوي قائلاً:"يخافان الفرح".
نظرت بدوري متلصلصة على لحظة حب، تعلقت بين وجهين هائمين على صوت غناء تارة جاف تصاحبها قيثارة:
(يا ران، دوس يارن بيدِ يّا... يا نو نازارام بي نيشان ديد ِيّا).
يا حبي الجميل، يا حبيب الروح
أحلامي في الليل لا ترتاح دونك
عندما أفكر بك أنوح مرّة أخرى..
تنهد هالكاوت، وحول نظراته نحو جبل أُزمر، وقال فجأة:"أحن إلى قهوة أمي.. في صباح بغدادي عادي".
((عندما كتبت هذه السطور مما استذكرته مع هالكاوت، جاءني خبر وفاة والدته في بغداد)).
(4)
شوانَدي لدرواري هوشم أديت
تأتين في الليل.. و
تطرقين باب إحساسي
أنشد كِلْباً على جيتاره حزيناً على فراق حبيبته، عندما كنا نسير على طريق دوكان، بمحاذاة جبل بيراماجرون. عبرنا أمام قلعة سوسي، التي حولها الأميركان إلى سجن، هرب منها سبعة أشخاص، ولم يجدوا مكانا للاختباء، في السهول التي ترامت حول القلعة عند أقدام جبل سارة، ماتت قرى السهول التي سكنت هنا حرقاً.
وغنى شيركو لهذه السهول:
(إنها قصيدة ترتدي الحداد في تابوت ابنها، وتنام).
تململت سارة في مضجعها، وتدحرجت منها دمعة لدى سماعها موسيقى( دركو)، الذي انَّت جيتارته بلحن فردي، وشجا صوته باكياً يقول:"كلما قصرت المسافة نحو سارة، كلما انتفض القلب خشوعاً". لذلك الحب الذي اندفن عند أقدامك.. سارة.
دارت الطريق بعد قمة سارة، وتغير المشهد، حيث جلست تلال وكأنها ملفوفة حول بعضها، طلباً للدفء. ثم حاذينا جبل كوسرت،الذي سبقنا إلى قمته متسلقاً صوت شفان:
إيه يا فرات أي فرات
سر كما أريدك
اجرِ كما أريدك
أنت تريد الحرية مثلي.
عندما وصلنا إلى خلكان، تسارعت أصابع شفان على البُزُق وقال:
وايلي مي .. وايلي مي.. وايلي مي
دابرارابن.. دابرونن
انهضوا.. تقدموا
سارفراسكن..راي ازداي
إرفعوا راية الحرية
فتح جبل جناروك ذراعيه، وكأنه يريد حماية جبل هيبت سلطان، الذي التحم بظهره تماماً.
وقف جنين في حديقة المطعم، التي أشرفت مصطبتها على مدينة رانية، عند أقدام جبل قنديل.
لم يكن في المطعم أحد، وكأنه مهجور، جلست وجنين على طاولة في طرف المصطبة، سألني جنين بعد الكثير من الصمت، لماذا أردت لقائي؟
قلت له وأنا شاخصة بنظري إلى قمة قنديل: لكي أسألك، لماذا سموك جنين؟
نظر جنين نحو الجرف الذي يفصلنا عن قنديل، وبصوت طيب قال:كان أبي جندياً في الجيش العراقي، ذهب مع الجيش العراقي إلى فلسطين عام1948 ، كان في جنين عندما وصلته برقية من أربيل تبشره بخبر مولدي، وأرسل لهم بأن يطلقوا علي اسم جنين، إحياءً لذكرى تحرير المدينة. وصمت جنين، واعتقدت بأنه سينهض ثم يذهب، ثم بحث في جيبه قليلاً، فاخرج هاتفه المحمول، وتحدث بالتركمانية، وعندما رآني انظر إليه متسائلة، قال لي من دون أن يضع يده على السماعة، هذه ابنتي، ثم عاد للحديث بالتركمانية، دقيقة وأغلق هاتفه وهو يقول: ممنون.
يا أخي الثائر، ردد جنين:" أخي الثائر، قصيدة محمود درويش التي مدح فيها الأكراد".
سألت جنين عن سبب حديثه باللهجة التركمانية وليس بالكردية، قال بابتسامة اختصرت عشرات السنين من سنين عمره الستين: أنا كردي متزوج من تركمانية، عندما اجتمع مع أبناء عمومتي، نجلس ولا نجد لغة توحدنا جميعاً، منهم من لا يعرف الكردية، أو لا يعرف العربية ويتحدث بلهجة آشورية. كانت دراستنا باللغة العربية، وبالكردي السوراني، الآن يستعملون فقط اللغة الكردية، لكن مع مصطلحات لاتينية.
دقق جنين النظر في أوراقي ، وتردد لحظة قبل أن يقول: شكراً لياسر عرفات.
وعندما لاحظ إنني لم افهم عما يتحدث، قال:" ياسر عرفات، هو الذي رفض مناقشة مشروع ترحيل الأكراد، وإرسالهم إلى السودان، كان ذلك ربما في القمة العربية الثانية، قال ياسر عرفات (لا نريد مناصرة الشعب الفلسطيني وتدمير شعب آخر). أنا عرفت ذلك لأنني كنت اعمل في وزارة الإعلام، لكنني تقاعدت في عام 1985 ، بعدها طورت الإذاعة وتلفاز المستقبل في كردستان، بمساعدات من فلسطين.
وقف جنين منهياً اللقاء، وقال:" يجب أن أعود للبيت الآن" مشى خطوات عدّة، ثم عاد وقال" حرام ما يحدث للفلسطيني في العراق، حرام أن يتشردوا الآن في الصحراء، كان صدام يستعملهم، أكثر مما خدموه، الأكراد استفادوا من علاقاتهم مع الثورة الفلسطينية، جميعهم تدرب هناك، حرام ما يحدث لهم الآن. على الحكومة الكردية أن تضيّفهم في كردستان، لكي تشكر ياسر عرفات، على ..الأقل".
في كل منفى من منافيهم بلادٌ لم يصبها أي سوء..
صنعوا خرافتهم كما شاءوا، وشادوا للحصى ألقَ الطيور
وكلما مروا بنهر... مزّقوهُ، وأحرقوهُ، من الجنين..
وكلمّ مرّوا بسوسنه بكوا وتساءلوا: هل نحن شعب أم نبيذٌ
للقرابين الجديدة؟
رواندوز، مصيف رواندوز، مقابل جبل كوراك، ومن ورائه على مدى البصر جبل حساروست، وخلف كركوك شلال بيخال، نزل كامران حافي القدمين ورقص تحت المطر، ونظر إليه رومان وفرهاد سعيدين بسعادته الطفولية، توقف كامران عن الرقص فجأة وهرع إلى آلة التصوير، ووضع عدسة هائلة الطول، اسند العدسة على كتف رومان وكأنها آر بي جيه، وبدأ بتصوير القمر،الذي اعتلى نهاية الجرف المطل طريق هاملتون، الطريق القديم لهاملتون. كان فرهاد يشير بيده إلى كل الجهات، وكأنه لا يريدني أن اغفل عن أية بقعة من جباله التي عشقها، وسكن قممها والده، عندما كان مع البشمرجة ، مجموعة جلال طالباني.
اقترح رومان بان نقضي ليلة أخرى في رواندوز.
تدفقت القصص من فم فرهاد، أحيانا أتابعه، وأحيانً لا أملك ذلك، أسمعه يقول ونحن على حافة خطرة، هنا قتل سعد عبد الله، أول شهداء سوران، من مجموعة البارزانيين الذين يتعممون بالعمامة الحمراء، يترك مقود السيارة ليتأكد من أنني نظرت بالاتجاه الصحيح، وأنا أصاب بالدوار، لم ينتبه على لوني المصفر تماما،وذلك لدواعي سروره باهتمامي بجمال الجبال.
أما عندما قلت له، بأن جبال كردستان هي أجمل من جبال سويسرا، وكنت صادقة في ذلك، عندما شرحت له بأن جبال سويسرا هي حقاً أجمل بقاع الأرض، لكن إذا سكنتها، أو جلست مقابلها، تنسى أنها موجودة بعد فترة، لأنها مثل الجميلة الصامتة، بينما هذه الجبال بإمكاني الاستماع إلى أنفاسها، وكأني نمت ليلة على الشاطئ، وصوت الأمواج يهدهدني، وهذه الجبال لها صوت هدير البحر. قال لي بكل صدق:"أنت مثل الوطن".
ثم تابع محاولاً ألا يهول الأمور،لكن صوته خانه، وعلا صوته قليلاً، وكأنه الناطق باسم جبال كردستان:
"على هذه الجبال الساحرة، على هذه الجبال القاسية ببردها بوعورتها، وشلالاتها المتجمدة، وثلجها المتجلد، شرد ثلاثة ملايين إنسان، تركوا المدن لتسكنها الأشباح، صعدوا الجبال، بعد احتلال قصير للبشمرجة للمدن الكردية، الذين استغلوا حالة الوهن التي أصيب بها جيش صدام، بعد فشله في احتلال الكويت.
جاء انتقام صدام، دموياً، وسقط عشرات الآلاف، من الجوع ، من البرد، من المرض، من الكيماوي". ومن دون أن يتوقف لأخذ أنفاسه استطرد فرهاد:" استمر العذاب والخوف حتى معركة كوري، على مضيق كوري، وانهزم صدام وأوقفت دباباته".
عن/ مجلة : أوراق فلسطينية