ما فائدة الكتابة إذا لم تكن إشكالية؟. سؤال أودّ أن أقدّم له مدخلاً يتعلق بسوء الفهم الذي يمكن أن يكون قد مسَّ عمودي الأسبوع الماضي"شروط الناشر العربي". وأرغب في البدء أن أوضح بشكل لا لبس فيه بان العمود لا يستهدف داراً (المدى) أتعامل معها بثقةٍ ولياقةٍ واحترامٍ منذ سنوات، نشراً أو كتابةً متواصلة، واستلمتُ حقوقي منها باتفاق واضح لا أشكو منه بحال من الأحوال. العمود مكتوب في منبر دأب غالباً على إثارة "الإشكاليّ الثقافيّ" من دون ضجيج أو مقاربات صحفية سهلة أو شخصية.
إن قضية مثل التي طُرحتْ هناك، تودّ الذهاب إلى "إشكاليات عامة"، متداوَلة بالتلميح والتصريح في أوساط المؤلفين العرب، وإلى تجارب مؤلمة مُجْحفة صارت قواعد عامة في التعاطي الثقافيّ.
بعيداً عن ذلك العمود، وعن كل أمر ذاتيّ ضيّق، علينا التساؤل عن فائدة الكتابة الناعمة التي تعيد المألوف، وعن معنى المصنفات والأشعار والأفلام والمسرحيات واللوحات، من دون أسئلةٍ وإشكاليات؟. ولماذا يُنظر بعدم الاطمئنان للشعراء والكتاب والتشكيليين والسينمائيين والنقاد العرب الإشكاليين القلائل، ويجري الغمز من طرف بعضهم بصيغة الذمّ على هيئة المدح؟. لم أجد إجابة بعد على السؤال لو كان سليماً.
ولكي لا يكون الكلام عمومياً، فقد وُصف أدونيس مثلاً بأنه مثقف إشكاليّ، ولاحت من الصفة "إشكالي"، في النقود العربية، دلالات ثانوية connatation غير مريحة. هذه الدلالات يصفها السيميائيون بأنها الدلالات التي تقف على حافة المعنى الأصلي أو تحيط به كما تحيط الهالة، أو تتداعى منه. لقد فُهمت الصفة غالبا بمعنى ثانويّ سالب مُضْمَر في ثقافتنا العربية التي كأنها ترتاب من الخارج عن السائد والمألوف والعُرْفيّ والمتفق عليه. القاعدة هي المشي على هدي السائد، بينما الاستثنائيّ فهو الإشكاليّ. وليس هذا هو الحال في الثقافات الأخرى التي تمنح "للإشكاليّ" دلالة ثانوية تفوح بالإيجابيّ مضمراً وغير مضمر، لأن جوهر الإشكاليّ يصير مساءلة وتساؤلاً وسؤالاً، وهذا من المرغوب فيه.
لقد وقع طرح الموضوع نفسه، في مرة سابقة، في هذا المكان نفسه تحت آخر عنوان: "ما فائدة الكاتب الستاندرد". إن كتابة من دون إشكاليات هي كتابة "ستاندارد" لا ملح فيها، غائمة وعائمة وتنسج على المنوال، وتعاود قول المقولات والمفاهيم المعروفة. المثقف الستاندرد هو الطرف النقيض للمثقف الإشكاليّ. الأخير يعاود تقليب المشكل، حتى لو تعلق الأمر بالبداهة الذاهبة مذهب المسلّمة.
لقد رُبط الإشكاليّ في ثقافتنا العربية، في أحيان أخرى، بالنزق الآنيّ، وقلة الحصافة، والتوتر العاطفي، وتغييب العقل، وإلقاء التهم جزافاً على الفاعلين الثقافيين الآخرين، ودائما في نطاق تلك الدلالات الثانوية المتداعية. في حين يرتبط "الإشكاليّ" في حقيقة الأمر بـ "المعرفيّ". لا يمكنني إثارة قضية من بابٍ غير متفق عليه إلا شرط معرفة الزوايا الممكنة الأخرى والظلال واحتماليات قراءة القضية تلك، بما في ذلك تاريخها وطريقة عملها في سياق محدّد.
المعرفة في الجوهر إشكالية إذا شئنا، بمعنى أنها لا تقبل المسلمات ولا الأيديولوجيات ولا الأجوبة الجاهزة.
philo
لكن المعرفة هي "رحمة" أيضاً، وتَقْبَل بتعدّد وجهات النظر، واختلاف زوايا المعالجة، وترضى عن طيبة خاطر بمفهوم "التأويل" الطالع من صلب الخطابات المؤوَّلة، وليس من نوايانا الذاتية عنها. الإشكاليّ إذنْ، ولهذا السبب، يرتبط بالمحبة واحترام الفاعلين الثقافيين الآخرين، مثلما يعني الأصل اليوناني لمفردة فلسفة (والفلسفة تقليب مستمر للإشكاليات) حرفياً: حب الحكمة.
إننا نركز غالباً على الطبيعة الإشكالية للفلسفة، وننسى الشطر الآخر الذي يُكوُّن المفردة: فيلو = philo = أحبّ، محبة، حباً.
ما فائدة الكتابة إذا لم تكن إشكالية؟
[post-views]
نشر في: 24 مايو, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...