اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الفضاء الثقافيّ العراقيّ في حقبتين

الفضاء الثقافيّ العراقيّ في حقبتين

نشر في: 31 مايو, 2013: 10:01 م

في حقبة روّاد القصيدة العربية الحديثة في العراق، ما هي الحالة الاجتماعية والاقتصادية لغالبية العراقيين؟. وما هي وضعية الروّاد الشخصية في هذا السياق؟. وكم كان عدد منافسيهم على الصعيد الأدبيّ؟. أسئلة لا تبدو للوهلة الأولى ذات علاقة بالإبداع، لكنها قد تفسِّر حالاتٍ ثقافيةً نعيشها اليوم.
حسب إحصاء عام 1947 بلغ عدد السكان 4 ملايين و 564 ألف نسمة، في وسط يتقاسمه ريف شبه إقطاعي عشائري، وطبقة متوسطة تعمل بالتجارة والمانيفكتورات العائلية والخدمية، وفي الوظائف الحكومية. كان مركز الشورجة التجاريّ مرتبطاً "بمحلة صبابيغ الآل والمحلات المجاورة لها حيث تسكن العوائل البغدادية العريقة التي كانت تسيطر على جزء كبير من التجارة والحياة الفكرية والسياسية، وبخاصة عائلة أبو التمن وبيوت كبة وفتاح باشا وعلّاوي والخضيري والأزري ومكيّة والباججي وقنبر أغا والعطار وغيرها" على ما يقول إبراهيم الحيدري.
كان التعليم التمهيديّ والعالي، مقصوراً تقريباً على الفئات البرجوازية وبعض الإقطاعية. أول مدرسة زراعية ريفية فتحت في الحلة نهاية العشرينات من القرن الماضي. لم يكن هناك معهد تجاري حتى عام 1930 حينما قرّرت وزارة المعارف فتح شعبة للدراسات التجارية في الثانوية المركزية، كما لم تكن في العراق حتى عام 1932 سوى مدرستين صناعيتين في بغداد والموصل.
أما الأمية فحدّث ولا حرج. لعبت الأرستقراطية البغدادية والبصرية والموصلية دوراً تنويرياً، ومن وسطها بالضبط خرج الشعر والفن الحديثان. البيئة الميسورة مادياً التي طلع منها روّاد الحداثة حقيقة لا شك فيها: السيّاب ينحدر من عائلة آل السياب الغنية، وكان عميدها الثريّ المتنوّر عبد الجبار مرزوق السياب الذي ورث عن أبيه أملاكاً جمّة في أبي الخصيب. جواد سليم المولود في أنقرة لأبٍ كان يعمل في الدولة العثمانية (وهو أمر لم يكن يتهيأ للجميع) قبل عودة العائلة للسكن في محلة الفضل. نازك الملائكة المولودة في العاقولية من عائلة أرستقراطية محافظة، والبياتي من عائلة البيات ذات الأصول التركية التي سكن قسم منها في الأعظمية بعد سنة 1830، بلند الحيدري، كردي من عائلة ثرية ونافذة. أبو والدته كان شيخ الإسلام في إسطنبول، ووالده كان ضابطاً في الجيش العراقيّ. ومثل ذلك يُقال عن عائلة آل سعيد (شاكر حسن) وسعدي يوسف المتحدّر من عائلة ميسورة.
لقد وجدت الأسماء الخمسينية القليلة ظروفاً مادية مثالية لتطوير مواهبها. قامتْ المنافسة بين أصوات تعرف بعضها جيداً، وتابعت منجزات بعضها بصرامةٍ محمودة، ولم يكن ممكناً مرور الطاقات الإبداعية دون أن يلحظها هذا الوسط الضيق.
تغيّر الأمر في العقود اللاحقة، فلا أعداد المبدعين المتنافسين بالمحدودية السابقة، ولا الفضاء الثقافيّ بالحدود الجغرافية الصارمة، ولا المبدعين بخارجين من بحبوحةٍ مادية هي عنصر ضروريّ للتأمل الجماليّ ومؤثر في النتاج الإبداعيّ.
مع هجرة أعداد كبيرة من الريف لمدن العراق، تغيّرت المعادلة، وترافقت مع قمعٍ سياسيّ شديد، وحضور أيديولوجي طاغٍ، لم يسمحا بتمثيل موضوعيّ للفضاء الثقافيّ المُستحدَث، ولا بتقديم قراءاتٍ محايدة للأدب.
عندما أثيرت من جديد مشكلة قصيدة النثر، مثلاً، في منتصف السبعينات، كان الفضاء المدينيّ المتسق والمحصور جغرافيا سابقاً، يشهد تمزّقاً بنيوياً عميقاً، وهجرات ثقافية قسرية وتشويهاً للوعي، بينما كان الريف يبرهن على حضوره في المدن، قادماً بالبقايا العالقة من موروثه الاجتماعيّ والمفاهيميّ والأخلاقيّ.
وأحسب أن نتيجة ذلك هي أن الإبداع الأدبيّ لم يحصل على فرصة القراءة العادلة. بل شهدنا انشطاراً، من بين أمثلته الأخيرة فكرة (الداخل والخارج)، والتجاهل للمبدعين (الغائبين) عن البلد والكتابة الأكاديمية ذات (الاتجاه الواحد)، و(تهميش المختلِف) وإطفاء (أدب الأقليات) وغير ذلك.
من حينها، لا وجود لفضاء ثقافي حيويّ متماسِك كالذي أبدعته الأرستقراطية في الخمسينيات، مهما كانت درجة اختلاف مكوّناته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. قارئه

    رائع ... حقا زمن يشّع عطاء ورومانسية ، سمعنا وقرأنا عنه وفي الخيال حلم يبحث عن نتف تساقطت منه هنا وهناك ذلك الزمن المفقود ، سلمتم .

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram