TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > شعرية "الشذرة" أم شعر الهايكو؟

شعرية "الشذرة" أم شعر الهايكو؟

نشر في: 4 أكتوبر, 2013: 10:01 م

يمكن أن تكون الشذرة أمراً من ثلاثة: إنها جزء من عمل أطول غير مُكتمِل قصداً (أو لم يكمله مؤلفه عن غير قصد)، مقتطفات متبقية من أعمال كبيرة ضائعة، إنها أعمال مبنية عمداً لكن تكون كِسَراً وشظايا أدبية. والأخير هو الذي نقصده اليوم. الشظايا الواصلة من اليونان ومن العصر الوسيط الأوروبيّ، ليست سوى فقرات أو جُملٍ مُقتطَعة من نصوص كبيرة مفقودة لسبب من الأسباب: التغيرات الثقافية والسياسية، الحرائق، الفيضانات، ضياع المخطوطات الأصلية... الخ. لذا فهي لم تُكتب أبداً بالأصل على هيئة شذرة. في التراث العربيّ يمكن الوقوع بالأحرى على شذرات غير مُقتطَعة من نص أطول منها.
في أوروبا، لعبت الشذرة المُتعمَّدة، الشظيّة المكتوبة بصفتها شظيّة، دوراً هاماً في الأدب الرومانتيكيّ. فقد ركّزت الحقبة الرومانتيكية الألمانيّة على هذه الشذرات بصفتها أمراً أدبياً مخصوصاً، كما في أعمال الإخوة أوغست وليام وفريديريك شليغل، والأشهر من بين هذه الشذرات تلك المسماة بالألمانية "شذرات [مجلة] أثينيوم" (Athenäumsfragment 116) لفرديريك شليغل التي قدَّمت لنظرية الشعر الرومانسيّ على المستوى العالمي. المجلة صدرت بين الأعوام 1798- 1800. وفي رأي شليغل يتوجب على الرواية أيضاً أن تظل محض مقتطعات. يبدو شليغل المُنظّر الأبرز لفكرة الشذرة، يقول: "عدة أعمال من الماضي صارت شذرات، وعدة أعمال حديثة هي شذرات في وقت كتابتها". ويتحدث في كتابه (قراءات في تاريخ الأدب القديم والحديث) 1815 عن أن "نشاطه تَقدَّمَ بوضوح من الشذرة إلى النسق"، مشيراً إلى "روح geist الشذرة" التي لا تشكّل نوعاً أدبياً منفصلاً لكن أمراً واقعاً: واقعة. نقترح قراءة مقالة الياباني أوتاب تانهيسا بالإنكليزية: "فرديريك شليغل وفكرة الشذرة: مساهمة في الجماليات الرومانتيكية"، لرؤية الأهمية القصوى لشليغل في صياغة مفهوم الشذرة الجماليّ في الأدب الحديث.
يتحدث المعنيون عن حضور الشذرة في الأدب الإنكليزي منذ نهاية القرن الثامن عشر، ويقدّمون مثالاً لذلك قصيدة صاموئيل تايلر كوليردج غير المُكتمِلة التي كتبتْ عام 1797 ونشرتْ عام 1816 بعنوان "قبلاي خان، أو رؤية في المنام: شذرة". في إيطاليا القرن التاسع عشر تعتبر كتابات الشاعر جياكومو ليوباردي من نماذج الشذرة: مذكراته الفلسفية الضخمة "زيبالدونه" الصادرة عام 1900.
يجري الحديث في يومنا عن "أدب الحدّ الأدنى" أو "القصة المكروسكوبية" أو "الأشكال المُقتضَبة" التي سيعارضها مارسيل بروست، كما يعلّق كاتب فرنسيّ ساخراً.
هذا الاقتضاب قاد إلى الخلط بين الشذرة والهايكو اليابانيّ، وهو شكل شعري ياباني مُشفَّر للغاية: قصيدة قصيرة، في غاية الاختصار تستهدف قول مفهوم زوال وتلاشي الأشياء (من هنا عنوان مجموعة سامي مهدي "الزوال" دون إشارة من طرفه). لا يكتفي الهايكو بوصف الأشياء، إنما يتطلب انفصال المؤلف عن موضوعه، ويُترجم إحساساً فورياً، ولا يَستبعد الطرفة ومجازات البلاغة لكن بتقتير شديد، ويستدعي القراءة بنَفَسٍ واحد وبصوت عالٍ، ويدعو إلى التأمل. وعلى قارئه أن يخلق صورته الخاصة به لأن الهايكو لا يَصِفُ بل يَستحضِر.
الجامع الوحيد بين الشذرة والهايكو هو الاختصار. وهذا أمر كميّ وليس نوعياً. حكمته الهايكو مُوحَى بها من بعيد، ولا يُصَرَّح بها، فهي واقعة في طبقة نائية، وهو لا يستهدف أن يكون غير مُكتمِل، فهو يتضمّن اكتماله والتمامه على نفسه عبر تقديمه للمشهد بدقة متناهية ورهافة إيقاعية، بينما لا تتضمن الشذرة هذا الالتمام الداخليّ، بل العكس من ذلك تبدو وكأنها تسعى، عبر عدم التمامها وعدم اكتمالها، للانفتاح على المعاني التي وقع قول بعضها فحسب.
الهايكو ليس شظية، إنه بنية مُحْكَمَة غير متشظية. والشذرة كٍسرة متبقية من بناء افتراضيّ لا نعرف، أو نخمّن فحسب هيئته الأصلية، ولعلنا لن نستطيع معرفته إلا عبر استقراء مجموع أعمال المؤلف. شكلياً: الهايكو بنية مغلقة والشذرة بنية مفتوحة، وشتان بين الأمرين. تقع الشذرة، في نهاية المطاف، ضمن مفهوم عريض للشعرية، بينما يقع الهايكو في مفهوم الشعر الأكثر تقعيداً، بل الصارم الشروط، وزنياً ومعيارياً.
 يُتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram