في يومين متتابعين، قرأنا على سبيل المثال نقدين للمثقفين العرب، الأول بعنوان "أيها المثقف، أُخرجْ من صمتك"، والثاني "أين هو المثقف العضويّ في العالم العربي؟" ويمكننا التساؤل بهذه المناسبة: لماذا ليست مسموعة أصوات المثقفين العرب غير الصامتين؟ وهل مثل هذه الخطابات موجَّهة للناطقين أيضاً أم تتخطاهم لانعدام تأثيرهم المُفترَض؟ ولماذا يتجاهل هذا النقد الوجه الآخر من الصورة ويقدّم تعميماً مُفْرِطاً؟
ويُخيّل لنا أن المقالتين المثالين تخاطبان المثقفين الأكثر شهرةً، السائدين اليوم في المنابر المُموَّلة من طرف رأس المال العربيّ، أو الطامحين به في الفرص المؤاتية، هؤلاء المثقفون راسخون في صمتهم الأزليّ، ولن تزحزحهم القارعة، أما الأصوات الأخرى فيبدو جلياً أن مؤلفي المقالتين لم يتتبعا أصواتهم، وهي ليست نادرة على الإطلاق.
لكننا مثلهم وكثيرون غيرنا، وجهّنا في مناسبات عدّة نقداً لمثقفين نعتقد أن الواجب الأدبيّ والأخلاقيّ يتطلبه، وكنا نظنّ أننا نعرف طبيعة تلك الشريحة، ومواقفها المُعْلنة وسياسات المنابر التي تقود اليوم العالم العربي سياسياً وثقافياً، وهو ما لا يجهله أحد.
ينطبق الامر على الجيل الجديد من الشعراء والشاعرات العرب الذين كنا يوماً جدداً مثلهم، ووُجِهنا بنقد مماثِل للنقد الذي وجّهناه لهم، لكن ليس بقسوة النقد التعميميّ الحالي. علينا القول صُراحاً أن كل نقد صُوِّب أو يُصَوَّب إلى هذا الجيل، يُصَوَّب في الحقيقة إلى فظاعة الزمن العربيّ الذي طلع فيه، إلى انحطاط اللحظة وليس إلى الأشخاص أبداً. نحن نعرف الآن يقيناً أن الأصوات الجديدة لا تنقصها الموهبة والإلماحية والإبداع والتوتر الخلاق، السياق العام متدهور، وقد أصابهم كما يصيب الجميع في مكان ما.
لقد طلع هذا الجيل الجديد، كما جيلي، في وسطٍ من الشعراء والكتّاب الذين اقترحوا أنفسهم منذ البدء (نهاية للتاريخ الأدبيّ) تقريباً. ثمة جيل سابق لم يودّ، وما زال، ترك هامشٍ للآخرين، هذه الأبوّات ما زالت قائمة وفاحشة وذات أصول دينية وقبلية أكيدة لا يُعترَف بها، ويتوجّب إزالتها لصالح وعيٍ إنسانيّ وإبداعيّ وأخلاقيّ (يتساوى) فيه الجميع حتى يقول التاريخ كلمته.
نصيب الشاعرات النساء من النقد التعميميّ يشابِه وضع جميع المثقفين العرب في سلة واحدة، بعض الشاعرات الجديدات بدورهنَّ، لا تنقصهنّ الموهبة والتألق، لكن الوسط الذكوريّ العربيّ المنتصَب، أو الغشّاش مَفْسَدَة كبرى. إن الإيحاءات التي تخلط التقييم الجماليّ بغيره قد أفسدتْ منذ وقت طويل هؤلاء الشابات، كما أن مستقبل المرأة بحيازة زوج وبيت وأطفال حصرياً، قد أخمد مواهب كثيرة. هل نتمنى لهنّ أزواجاً، وجودهم ما زال قليلاً في عالمنا العربيّ؟ مشكلة حقيقية قادت إما إلى غواية التعالي والغرور عندهنَّ، وإما إلى الموت البطيء في أحضان سياق قرّر مكانا واحدا ثابتاً للمرأة، مع مزاعم جميلة نعرفها كلنا.
في تاريخ الفن العالميّ، شهدنا انطفاء أهم الرسّامات النساء، للأسباب نفسها في الغالب، نذكر منهن الإيطالية أرتيميسيا جنتليشي (1593- 1652) من القرن السابع عشر، من أهمّ الرسّامين الباروك، ومن أهم النساء اللواتي رسمن المواضيع التاريخية والدينية المعقّدة. تتلمذتْ أولاً على يــد أبيها المتأثر بكرافاجو، العظيم. في التاسعة عشرة من عمرها خَصّص لها والدها مُدرّسا خاصاً هو الرسام أغوستو تاسو، لأن ذهاب النساء إلى معاهد الفنون كان ممنوعاً، تاسو يغتصبها... الخ. وأحسب أن لوحتها "سوزان والعجائز" 1610 تعبير عن حالتها، برغم أنها مُستلهَمة من قصة النبي دانييل.
حال بعض المثقفين غير الصامتين وبعض الأدباء الجدد هو حال أرتيميسيا جنتليشي بشكل من الأشكال: ممنوع ومُغتصَب ومنسيّ.
النقد التعميميّ وتسفيه الأصوات الجديدة
[post-views]
نشر في: 25 أكتوبر, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
قارئه
تحية وبعد ... ننتظر بشغف تلويحاتكم الباحثة عن الوجوه .