(1 – 2)
سنجازف بالقول إن ثقافتنا العربية لا تبدو وكأنها قد بلورت مفهوماً دقيقاً لمصطلح (الواقعية) في فن الرسم. يعاني المفهوم من التباسات قادمة من كل حدب وصوب، ويُستخدم مرات كثيرة بطريقة مجازية أو بشكل إطلاقيّ وعريض، كما يبدو بشكل خاص، وكأن المفهوم هذا ملقى على القراء من دون تاريخ محدّد، بينما يشير مفهوم الواقعية في فن التصوير إلى حركة فنية ظهرت في فرنسا بين 1850 و1885، وكانت مكرّسة للحياة والمجتمع. من رساميها الأكثر شهرة غوستاف كوربيه (1819-1877). وقد كان لمضمون أعماله أثر دائم على مصطلح "الواقعية" نفسه.
لنطلق هذه الطرفة في مقام تاريخ (مفهوم الواقعية): أن أول منظـِّر للواقعية، الفرنسي شامبلفوري قد صرّح مرة بالقول التالي: ”إن كلمة واقعية هي كلمة انتقالية لن تصمد أكثر من ثلاثين سنة، وهي من هذه المصطلحات المطاطة التي تمنح نفسها لجميع الاستخدامات". ومن الواضح أن الزمن لم يبرهن على ما قاله شامبلفوري، وذهب إلى توطين المفهوم الذي قاوم جميع التيارات الفكرية والسياسية والجمالية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ناهيك عن حضوره القويّ في قرننا الحالي.
إن أول رسام أوحى بالمفهومة الواقعية هو الفرنسي غوستاف كوربيه، وذلك عبر لوحته الشهيرة "دفن في أورنان" سنة 1849 التي هي حسب الشاعر بودلير (وكان ناقدا فنياً بارعاً وذا حضور متميز في صالونات الفن الباريسية): ”تمثيل لطبيعة خارجية إيجابية ومباشرة". لقد كانت لوحة كوربيه فضيحة فنية عبر موضوعها كما عبر معالجتها الأسلوبية. وإذا ما كانت الواقعية هي نتاج تشكيلي أولاً قبل أن تكون (نتاجاً أدبياً) فلم يحدث الأمر بمحض الصدفة السعيدة، ذلك أنه من بين جميع الأنساق الجمالية فإن الواقعية في الرسم تظل (تسرد) المرئيّ منساقة إلى (ضرورة) لصيقة بالفن نفسه.
لكن لنعد إلى تاريخ المفهومة وكيفية تطورها. فقبل أن تطبَّق كلمة (واقعية)على تيار محدّد من رسم القرن التاسع عشر، كانت وظيفة فن الرسم الأصلية والتاريخية هي تقليد الواقع، وخلق واقع تصويريّ يُماثِل العالم الخارجيّ عبر (حيلة بصرية) إذا صح التعبير. لقد كانت قدرة الرسامين لهذا السبب، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقدراتهم على الإيهام بالتالي: إن الواقع المرسوم يُطابق حرفياً الواقع الخارجي.
إن الخدعة البصرية صارت أعلى تجليات فكرة الرسم، وهو ما تشهد عليه القصص اليونانية، المُختلقَة غالباً، عن رسّامَيْن يتنافسان على الفوز بسبق اكتمال الخدعة البصرية، وهما زيوكسيس وباراسيوس، ويرويها المؤرخ بلين الأب. كان الرسّام الأول فخوراً بقدرته على رسم عنقود من العنب مذهل بواقعيته بحيث أن العصافير كانت تحاول التقاط حباته، في حين أن باراسيوس الذي أفاد، كما تقول الحكاية اليونانية، من غياب صديقه فرسم ستارة جدّ واقعية فوق لوحته. عند عودة زوكسيس المتوهِّم كليا بخدعة صديقه المُطْبِقَة حاول أن يرفع الستارة من على اللوحة، مُعترفاً على الفور بأفضلية زميله في هذا المجال الإيهامي.
مرّ تطور المفهومة الواقعية بمراحل وفترات وشهد تغيرات في أوروبا. يبرهن تاريخ الرسم الأوروبي على أن الواقعية لم تكن المرتكز الوحيد للرسامين الأوروبيين. فقد كان الفنانون في القرون الوسطى يعتقدون أن مهمة أعمالهم ليست سوى ترجمة للمناخ الروحيّ ولقصص الديانة المسيحية، على الرغم من أن فن الرسم لم يكن يفتقد العودة وبدقة إلى تمثيل نماذج محددة تراها العين وإلى تصوير حاجات الاستعمال اليوميّ. إن همّ (المُشابَهة) المقيم في تاريخ الرسم الأوروبيّ، يمكن أن يذهب إلى أقصاه وهو يصوِّر وقائع قاسية باسم الأمانة والتاريخ، مثلما هو الحال في مشاهد التعذيب ومناظر الشهداء والمعانين جسديا وروحياً من المصلوبين والقديسين.
يُتبع
هل لدينا مفهوم دقيق عن الواقعية؟
[post-views]
نشر في: 27 ديسمبر, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...