TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هل لدينا مفهوم دقيق عن الواقعية؟

هل لدينا مفهوم دقيق عن الواقعية؟

نشر في: 27 ديسمبر, 2013: 09:01 م

(1 – 2)
سنجازف بالقول إن ثقافتنا العربية لا تبدو وكأنها قد بلورت مفهوماً دقيقاً لمصطلح (الواقعية) في فن الرسم. يعاني المفهوم من التباسات قادمة من كل حدب وصوب، ويُستخدم مرات كثيرة بطريقة مجازية أو بشكل إطلاقيّ وعريض، كما يبدو بشكل خاص، وكأن المفهوم هذا ملقى على القراء من دون تاريخ محدّد، بينما يشير مفهوم الواقعية في فن التصوير إلى حركة فنية ظهرت في فرنسا بين 1850 و1885، وكانت مكرّسة للحياة والمجتمع. من رساميها الأكثر شهرة غوستاف كوربيه (1819-1877). وقد كان لمضمون أعماله أثر دائم على مصطلح "الواقعية" نفسه.
لنطلق هذه الطرفة في مقام تاريخ (مفهوم الواقعية): أن أول منظـِّر للواقعية، الفرنسي شامبلفوري قد صرّح مرة بالقول التالي: ”إن كلمة واقعية هي كلمة انتقالية لن تصمد أكثر من ثلاثين سنة، وهي من هذه المصطلحات المطاطة التي تمنح نفسها لجميع الاستخدامات". ومن الواضح أن الزمن لم يبرهن على ما قاله شامبلفوري، وذهب إلى توطين المفهوم الذي قاوم جميع التيارات الفكرية والسياسية والجمالية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ناهيك عن حضوره القويّ في قرننا الحالي.
إن أول رسام أوحى بالمفهومة الواقعية هو الفرنسي غوستاف كوربيه، وذلك عبر لوحته الشهيرة "دفن في أورنان" سنة 1849 التي هي حسب الشاعر بودلير (وكان ناقدا فنياً بارعاً وذا حضور متميز في صالونات الفن الباريسية): ”تمثيل لطبيعة خارجية إيجابية ومباشرة". لقد كانت لوحة كوربيه فضيحة فنية عبر موضوعها كما عبر معالجتها الأسلوبية. وإذا ما كانت الواقعية هي نتاج تشكيلي أولاً قبل أن تكون (نتاجاً أدبياً) فلم يحدث الأمر بمحض الصدفة السعيدة، ذلك أنه من بين جميع الأنساق الجمالية فإن الواقعية في الرسم تظل (تسرد) المرئيّ منساقة إلى (ضرورة) لصيقة بالفن نفسه.
لكن لنعد إلى تاريخ المفهومة وكيفية تطورها. فقبل أن تطبَّق كلمة (واقعية)على تيار محدّد من رسم القرن التاسع عشر، كانت وظيفة فن الرسم الأصلية والتاريخية هي تقليد الواقع، وخلق واقع تصويريّ يُماثِل العالم الخارجيّ عبر (حيلة بصرية) إذا صح التعبير. لقد كانت قدرة الرسامين لهذا السبب، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقدراتهم على الإيهام بالتالي: إن الواقع المرسوم يُطابق حرفياً الواقع الخارجي.
إن الخدعة البصرية صارت أعلى تجليات فكرة الرسم، وهو ما تشهد عليه القصص اليونانية، المُختلقَة غالباً، عن رسّامَيْن يتنافسان على الفوز بسبق اكتمال الخدعة البصرية، وهما زيوكسيس وباراسيوس، ويرويها المؤرخ بلين الأب. كان الرسّام الأول فخوراً بقدرته على رسم عنقود من العنب مذهل بواقعيته بحيث أن العصافير كانت تحاول التقاط حباته، في حين أن باراسيوس الذي أفاد، كما تقول الحكاية اليونانية، من غياب صديقه فرسم ستارة جدّ واقعية فوق لوحته. عند عودة زوكسيس المتوهِّم كليا بخدعة صديقه المُطْبِقَة حاول أن يرفع الستارة من على اللوحة، مُعترفاً على الفور بأفضلية زميله في هذا المجال الإيهامي.
مرّ تطور المفهومة الواقعية بمراحل وفترات وشهد تغيرات في أوروبا. يبرهن تاريخ الرسم الأوروبي على أن الواقعية لم تكن المرتكز الوحيد للرسامين الأوروبيين. فقد كان الفنانون في القرون الوسطى يعتقدون أن مهمة أعمالهم ليست سوى ترجمة للمناخ الروحيّ ولقصص الديانة المسيحية، على الرغم من أن فن الرسم لم يكن يفتقد العودة وبدقة إلى تمثيل نماذج محددة تراها العين وإلى تصوير حاجات الاستعمال اليوميّ. إن همّ (المُشابَهة) المقيم في تاريخ الرسم الأوروبيّ، يمكن أن يذهب إلى أقصاه وهو يصوِّر وقائع قاسية باسم الأمانة والتاريخ، مثلما هو الحال في مشاهد التعذيب ومناظر الشهداء والمعانين جسديا وروحياً من المصلوبين والقديسين.
 يُتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سافرات العبادي

العمود الثامن: غزوة علي الطالقاني

قناطر: البصرة في جذع النخلة.. الطالقاني على الكورنيش

كيف يحرر التفكير النقدي عقولنا من قيود الجهل والتبعية؟

العمود الثامن: العدالة على الطريقة العراقية

العمود الثامن: السعادة على توقيت الإمارات

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجزعن مواجهة واقع يسير بنا إلى...
علي حسين

كلاكيت: عن (السينمائي) وعبد العليم البناء

 علاء المفرجي علاقتي مع (السينمائي) لها حكاية، تبدأ من اختياري لها لكتابة عمودي (كلاكيت) منذ عددها الأول، ولا تنتهي بعددها الأخير. ولئن (السينمائي) تحتفل بعشريتها الأولى، كان لزاما عليّ أن أحتفل معها بهذا...
علاء المفرجي

تركيا تواجه التحول الجيوسياسي الناجم عن عودة دونالد ترامب إلى السلطة

جان ماركو ترجمة: عدوية الهلالي في الأسابيع الأخيرة، ومع ظهور الديناميكيات الجديدة للجغرافيا السياسية لترامب، تركز الاهتمام إلى حد كبير على اللاعبين الرئيسيين في الساحة الدولية، بدلاً من التركيز على دول الطرف الثالث التي...
جان ماركو

منطق القوة وقوة المنطق.. أين يتجه صراع طهران وواشنطن؟

محمد علي الحيدري يبدو أن ملف التفاوض بين إيران والولايات المتحدة دخل مرحلة جديدة من التعقيد، ليس بسبب طبيعة الخلافات القديمة، بل نتيجة تبدّل ميزان القوى الإقليمي والدولي، الذي بات يفرض مقاربة مختلفة عن...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram