TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الريع النفطيّ ثقافياً

الريع النفطيّ ثقافياً

نشر في: 17 يناير, 2014: 09:01 م

إنّ استخدام الريع النفطيّ في الحقل الثقافيّ، بوصفه وسيلة للترويج لسياسات وإيديولوجية وثقافة الدولة، هو ابتداع طوّره وبرع باستخدامه النظام العراقي السابق، دون شك عن جدارة، ومن خبراته يغترف الجيران، بل جميع الأنظمة في العالم العربيّ على أوسع نطاق اليوم، وإيران أيضاً.
عندما كان المثقفون العرب على بعض المسافة من رأس المال النفطيّ، كانت سياسيات تلك البلدان تخشاهم بعض الخشية في الأقلّ. عندما اشترى أضخم المؤسسات والمنابر المتلفزة، اشترى توسُّعاً الكثير، بل الكثير جداً من الأقلام والأصوات الثقافية العربية، ولم يعد يقيم لها وزناً قطّ.
لو كان ما نقول هنا صحيحاً فالحقيقة مؤلمة، لكنها نصف الحقيقة. النصف الآخر الذي يتوجّب قوله بإنصاف هو أن هذا الريع اُسْتُثْمِر أيضاً بالثقافة بأنواعها جميعاً. تأتي اليوم أكبر الجوائز الثقافية وأهمها من منطقة الخليج والسعودية: جائزة الشيخ زايد للكتاب، جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة، جائزة الإبداع العربيّ (مؤسسة الفكر العربيّ)، جائزة مؤسسة العويس الثقافية، جائزة عبد العزيز سعود البابطين، جائزة السلطان قابوس للإبداع الثقافيّ، جائزة دولة قطر لأدب الطفل، جائزة راشد بن حميد للثقافة والعلوم، جائزة الملك فيصل العالمية، جائزة الدولة القطرية التقديرية والتشجيعية.... الخ. والعديد من المؤسسات والمهرجانات والجوائز الفرعية نذكر منها فحسب مشروع كلمة للترجمة، وجائزة الشارقة للبحث التشكيليّ، ومهرجانات المسرح وجوائزه في الشارقة والسينما في أبو ظبي.
هذا الجوائز والمهرجانات لا يطغى عليها بالضرورة، الطابع الإعلاميّ والدعائيّ، والعديد منها ليس من الوزن الخفيف، ويساهم في محكّميها والمتبارين فيها بعضٌ من أهمّ الباحثين والمبدعين العرب في جميع الاختصاصات.
ما هي المشكلة؟. في ظني أنها مشكلتان، الأولى نفسية: خلق حالة من الهلع في الوسط الثقافيّ العربيّ الذي يهيمن عليه دون شك رأس المال هذا، يتمثّل بالتهديد والمنع وقطع لقمة العيش والاستبعاد من كل بحبوحة عائلية، سفراً وإقامة ونشراً، في جناتٍ مالية وعمارية على نمط دبي والرياض. وبالتالي خلق حالة من الإخصاء الرمزيّ (على ما قد يقول سيغموند فرويد) في الوسط الثقافيّ العربيّ تتجلى بصمته المريب المطلق عن كل سياسةٍ وممارسةٍ يقوم بها أرباب رأس المال، وبعضها فاحش ويتناقض جوهريا مع وعي وضمير وشرف المثقف النبيل: دعم داعش مثلاً والقاعدة بالتوكيل، وهو ما يعرفه هذا الوسط يقيناً. والثاني، مشكلة عمومية تنبثق من الأولى: عدم قدرة ولا رغبة رأس المال هذا بقبول (دور نقديّ للثقافة). ثمة استبعاد لكل صوت نافر لا يسير على الصراط الذي يختطّه بخفاءٍ لكن بصرامةٍ، ستراتيجيو رأس المال والمتعاونون معهم ثقافياً.
كلا الأمرين خلق انطباعاً قوياً عند المتحكّمين بالريع النفطيّ ثقافياً أن كلّ مثقف عربيّ صالح للبيع والشراء، دون استثناء، وهو ما يشفّ أحياناً من طريقة السجال المتعالية لبعضهم مع من يختلف معه حول هذا الأمر أو ذاك.
إن نتائج (الهلع) و(الإخصاء) لا يحمد عقباهما في عالم الثقافة الذي يحتاج بالضرورة إلى الحرية والطلاقة والأريحية والاختلاف من جهة، ويمتلك حساسيته وهشاشته وجماليات رؤاه من جهة أخرى.
المشكلة إذنْ عويصة مع غياب التقاليد الثقافية العريقة، وأجواء التخلّف العامّ، وغياب المعايير الأخلاقية، وحضور الصراعات الجيوسياسية الحادّة في المنطقة. الأمر الذي لا ينفي أن المسؤولية تقع على المثقف في المقام الأول، وليس على الريع النفطيّ الذي يشتغل بالطبع لحساب سياسة منفقيه، في المقام الرئيسيّ.
هل تستطيع الثقافة، في الأقلّ، تعديل وتخفيف أهواء وأخطاء هذا الريع؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. قارئه

    ألمشكلة ذاتها بمحوريها العتيدان ألمثقف الجسور ، والمال السياسي المخبول ، وعِبَر التاريخ تنبؤنا بغلبة الثقافي على الخبل ألمالي ، دامت الثقافة بكم .

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram