بعد استقراري، خارج الوطن، أتاحت لي فرص الحياة وعملي، التنقل والسفر في العديد من بلدان العالم، وكنت محظوظا أن شريكة حياتي تماثلني في حب السفر والتعرف على حياة وثقافة الشعوب. وعند كل زيارة لأي بلد كنا نحرص على أن يشمل برنامجنا محطة أساسية هي زيارة أهم
بعد استقراري، خارج الوطن، أتاحت لي فرص الحياة وعملي، التنقل والسفر في العديد من بلدان العالم، وكنت محظوظا أن شريكة حياتي تماثلني في حب السفر والتعرف على حياة وثقافة الشعوب. وعند كل زيارة لأي بلد كنا نحرص على أن يشمل برنامجنا محطة أساسية هي زيارة أهم المتاحف في تلك البلدان. وخلال ذلك تولد عندنا شغف بالبحث عن آثار بلادنا، وآثار وادي الرافدين، والاطلاع عليها في أي متحف مهما كبر أو تواضع حجمه. والمعروف أن بعثات الآثار الأجنبية التي عملت في بلادنا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبالتواطؤ مع السلطات الاستعمارية وفساد الأنظمة الحاكمة، هرَّبت وسرقت أهم قطع الآثار التي عثـرت عليها، كبوابة عشتار الموجودة حاليا في متحف برلين، مسلة حامورابي الموجودة في متحف اللوفر، الثيران المجنحة الموجودة في لندن وشيكاغو، وغيرها الكثيرمن قطع الآثار، التي يقدر عددها بالآلاف من القطع.
والتي تعد الأساس لافتتاح العديد من أهم الأجنحة في المتاحف العالمية واحد الأسباب لجلب الزوار والسياح. ومن بين المتاحف التي توفرت لي زيارتها، ولأكثر من مرة، والتي انبهرت بحجم وسعة الأجنحة المخصصة لآثار بلاد وادي الرافدين فيها، وعدد وأهمية ما حوت من آثار بلادنا، هي متحف اللوفر في باريس (افتتح عام 1793) والمتحف البريطاني في لندن (تأسس عام 1753 )، متحف معهد الدراسات الشرقية في شيكاغو (افتتح عام 1931) . في أول زيارة الى متحف اللوفر في منتصف ايلول عام 2008، فقدت السيطرة على نفسي وأنا أدور بين الآثار وروعتها وأهميتها، فرحت أخاطبها بصوت عال وسط دهشة الزوار من حولي، وشريكة حياتي تدعوني لخفض صوتي ، فالجميع يسيرون بصمت ويتحدثون بهمس. كنت مبهورا برؤية تمثال كامل لأشهر ملوك سومر: الملك غوديا (حكم 2124 ــ 2144 ق م) الذي تعاظمت الدولة في عهده وقام بتطوير نظام الري والتجارة الخارجية مع لبنان وشبه الجزيرة العربية ومصر، فهو واحد من الشخصيات المحببة عندي، فهو لم يكن من مدينة لكش، الا انه نجح في صعود سلم المناصب والزواج من ابنة ملك لكش اوربابو ( 2144 - 2164 ق م ) . وتميز عصرغوديا بالاصلاحات الاجتماعية فقد سمح للنساء بتملك الارض، واهتم بالفنون والآداب، وسعى لتطبيق القوانين، فرحت أحييه وأناديه : "انا هنا جدي غوديا" ، وكانت هناك من حولي عدة تماثيل للملك غوديا مقطوعة الرأس. وفجأة سمعت من خلفي ضحكة وصوتا بالعربية، يقول:" أحمد ربك ان الأوروبيين حموا رأس جدك قبل ان تكسره معاول المتشددين !". وكان ذلك سببا للقاء شخصية أكاديمية اعتز بالتعرف اليها، واتحفظ هنا عن ذكر اسمها لأسباب غير خافية على القارئ النبيه. كان محدثي عراقيا يعمل استاذا للتأريخ في واحدة من الجامعات في الدول العربية، لذا لم أستغرب سعة معلوماته، التي وبكرم عال تقاسمها وأيانا، ومنحنا من وقته الكثير ليكون دليلنا في جولتنا في متحف اللوفر، لكننا اختلفنا كثيرا حول مصير وواقع الأثار العراقية. فأستاذنا كان يشير الى أن التماثيل المقطوعة الرأس لم تكن بسبب سوء الحفريات كما يشاع في بعض المصادر، وانما تعود الى انها كسرت عمدا من قبل المسلمين المتشددين الذين يعتقدون ان التماثيل رمزا للكفر والضلال ومن الكفر محاكاة الرب في الخلق، فهو يعتقد ولأن الاصنام ظلت محرمة طويلا في الدين الاسلامي فلهذا السبب وصلت الينا الاف التماثيل مقطوعة الرأس وكان يشير الى عدة تماثيل تقف امامنا ، وعليه فهو يعتقد ان من الأفضل ومن الحسنات ان الأوروبيين قاموا بسرقة آثارنا ــ هكذا ! ـ لانهم بالنتيجة حفظوها لنا سليمة وبأحسن حال وعرفوا العالم بحضارتنا التي كان يمكن ان تزول أثارها بأيدينا وسوء تعاملنا معها!
كنت في حديثي متحمسا جدا لفكرة أهمية عودة الآثار والأعمال الفنية الى بلدانها الاصلية وفق القوانين الدولية التي لم تصدر جزافا ، وكان صديقنا الأستاذ يعتقد ان من حسن الحظ ان الحكومات العراقية المتعاقبة فشلت في استعادة هذه الآثار وفقا لبعض هذه القوانين ، واحتد نقاشنا عند هذه النقطة وحاولت وقف النقاش، لنفترق بسلام خشية من دخول الحديث في منعطف كلانا لا نرغب فيه.
هكذا وجدت نفسي دائما استعيد تفاصيل هذا الحديث الساخن كلما ازور متحفا ، واقف عند آثار عراقية ، وأرى وألمس جيدا حسن الاهتمام والطرق الحضارية للمحافظة عليها ، والمستوى العالي من الرعاية التي تلاقيها على أيدي أهل البلاد "الكافرة" كما يقول بعض أبناء بلادي . ففي شيكاغو حين اقتربت اكثر من احد التماثيل مدققا لنقش على سطحه قفزت السيدة الجالسة جانبا على كرسي وهي تخشى ان أقوم بشيء ما، ورفعت يدها محذرة وبيدها الثانية كانت تحمل الجهاز المخصص للاتصال بأمن المتحف . وفي متحف لندن، سار جمع من طلبة التأريخ ، خلف رجل عجوز، عرفت انه بروفسيور متخصص، يجرر نفسه بصعوبة، وسمعت جزءا من حديثه وهو يقدم لهم شرحا تفصيليا ودقيقا عن طرق صيد الحيوانات في بلاد ما بين النهرين.
عانت الآثار العراقية كثيرا على أيدي اللصوص المحترفين ومهربي الآثار، وكانت فترة حكم النظام الديكتاتوري البعثي ، فرصة لظهور عصابات تهريب من داخل الطبقة المتسلطة الحاكمة وهناك الكثير من التفاصيل والقصص عن هذا الأمر. وجاءت قوات الاحتلال الامريكي لتشهد آثارنا فصلا جديدا من السرقات التي شملت الاف القطع الآثارية من المتحف العراقي في بغداد الى جانب عشرات المواقع الآثارية وفقا لاحصاءات وزارة السياحة والآثار. وها نحن والبلاد تعيش حالة تخبط سياسي هائل، نكون وصلنا الى الفصل القاتم والمظلم ، فوكالات الانباء نقلت لنا، وبالصور، ما تقوم به عصابات داعش الارهابية، صنيعة اجهزة المخابرات العالمية، من تحطيم وقح وفج للآثار العراقية في مدينة الموصل، اضافة للقبور الاثرية للأولياء الصالحين، مثل هدم قبر النبي يونس، وقبور رجالات الفكر والأدب، مثل هدم قبري المؤرخ ابن الجزري، وابن الأثير صاحب كتاب "الكامل"، وتخريب الكنائس، مثل احراق كنيسة مار متى في الحي العربي بالموصل، وتزيل معالم تراثية حديثة مثل تمثال الشاعر ابو تمام وتمثال الملا عثمان الموصلي، وفي كل هذا يستندون الى كون النبي محمد حطم الأصنام عندما فتح مكة، وعليه فلا يمكن السماح بوجودها. ان عصابات داعش لا تكتفي بتحطيم الآثار وتحطيم رؤوس التماثيل، انها تتحكم بحياة الناس وتقطع بوحشية مفرطة رؤوس الناس، انهم يستهدفون الرأس، مكان العقل، فهل كان صديقي استاذ التأريخ محقا بكوننا محظوظين اذ سرق الغرب آثارنا؟!