TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عن الأصول الجمالية للشعر اليابانيّ

عن الأصول الجمالية للشعر اليابانيّ

نشر في: 25 يوليو, 2014: 09:01 م

ما فتئنا منذ بعض الوقت نقول إن شعر الهايكو ليس ممارسة شكليةً فحسب، إنما هو أمر آخر يطلع من تصورات فكرية وروحية عن العالم. إذا ما عرفتْ ثقافتنا الأصول الجمالية لـ (فن الشعر) الأرسطوطاليسي، وإذا ما قدّمتْ هي نفسها تصوّراتها عن (فن الشعر)، فإنها لم تتعرّف على نظرية أخرى للشعر غير نظرية المحاكاة اليونانية، وتناست أن الثقافة الآسيوية تقدِّم منظومة مفهومية مغايرة لما تعرفه عن الأصول الجمالية للشعر، ولفن الرسم أيضاً.
هنا مقدّمة ضرورية للأصول الجمالية للشعر اليابانيّ، مُنتخبَة ومستقاة من مصادر شتى، لفائدة القارئ العراقي والعربيّ.
أولاً: عموماً، تقوم الجماليات اليابانية على مثال أعلى يتضمن مبادئ مثل الوابي والسابي واليوجين. الوابي يعني (الجمال الزائل والصارخ) والسابي يعني (جمال المادّة الطبيعية والقِدَم) واليوجين يعني (اللطف العميق والرهافة). من هنا يقينا يطلع الهايكو.
ثانياً: يعتبر مفهوم الشنتو نبعاً للثقافة اليابانية، مُميِّزاً لجمالياتها جميعاً، عبر تشديده على كمال الطبيعة وحضور السليقة في (الأخلاق) والاحتفال بالمنظر الطبيعيّ.
ثالثاً: تأثرت الجماليات اليابانية بالبوذية: جميع الأشياء في البوذية تعتبر متطوّرة من العدم أو مُذابة فيه. العدم ليس (فارغاً). إنه فضاء لقوةٍ كامنةٍ: إذا كانت البحار تمثّل قوة كامنة، فإن كل شيء آخر هو كالموجة التي تجري منه وتعود إليه. لا توجد موجة دائمة. ولا توجد موجة كاملة.
رابعاً: انطلاقاً من فضاء القوة الكامنة يُنظر إلى الطبيعة بصفتها مجموعاً ديناميكيّاً يتوجّب تثمينه. تثمين الطبيعة جوهري بالنسبة للعديد من المُثُل العليا اليابانية وفي الفن بجميع ضروبه، والشعر والحِرَف اليدوية والفنية خاصةً.
خامساً: يرتبط مفهوم (الفن) بمفهوم "تثمين الطبيعة". لا نتحدّث عن "محاكاة الطبيعة" هنا. هذا الفن يفضّل الخط القُطْريّ على المُثلّث الجامد، لأنه يمثل التدفّق الطبيعيّ، أي انسيابية الأشياء في الوجود. نرى ذلك في فن الرسم والعمارة وفي تصميم الحدائق والرقص والتدوين الموسيقيّ. أما في الهايكو فهو أولا: لا يحاكي الطبيعة دون شك، وثانياً: يبدو مسار رؤيته البصرية ومداها قُطْرياً أكثر من أن يكون هندسياً جامداً. منظوره غالباً كالمنظور الآسيويّ لفن الرسم: من الأعلى ومائل قليلاً نحو المرئيّ.
سادساً: يحيل مبدأ الوابي والسابي واعياً إلى الحياة اليومية. الوابي – سابي يتحدّد بجماليات (الأشياء القاصرة عن الكمال، سريعة الزوال وغير التامة). مبدأ الزائل والمؤقت جوهريّ (ومن هنا استلهم التصوير الأوربي المعاصر الفكرة). وكما أن الأشياء تمضي وتجيء فإنها ترينا علامات مُضيّها ومجيئها، وهذه العلامات تعتبر "جميلة" بحدّ ذاتها، وبالنتيجة فالجمال حالة متغيّرة للوعي، ويمكن أن تُرَى فيما هو مُبتذَل وبسيط، لذا:
سابعاً: في الزن سبعة مبادئ جمالية لتحقيق الوابي – سابي وهي: (اللا تماثُل واللا نظامية)، و(البساطة)، و(الجذريّ، المُجَوّى)، و (ما هو بلا ادعاء، طبيعيّ)، و(الرهافة واللطف العميق وغير المعلن للعيان)، و(غير المتناهي عُرْفاً، الحرّ)، و(الهدوء). وهي حاضرة كلها في الطبيعة لكنها توجد في الإنسان وفي الممارسة الفنية.
ثامناً: الميابي (يا Ya) هو واحد من أقدم المُثُل الجمالية العليا اليابانية التقليدية. في اليابانية الحديثة قد يُترجم بـ (أناقة) (لطف) (كياسة). المَثال لأرستقراطيّ الأعلى لفن العمارة يتطلب القضاء على العبثي والمُبتذَل، وهو مضادّ لتلميع الأخلاق وارتفاع النبرة والمشاعر الصاخبة، ويتطلب لذلك القضاء على الخشونة والفظاظة، من أجل تحقيق أقصى درجات النعمة. ويُعبَّر عنه عبر الحسّاسية تجاه الجَمال التي كانت السمة المميِّزة لحقبة هيان. غالبا ما يرتبط المياني مع مفهوم مونو غير المُدْرَك والوعي بالطعْم المزدوج (الحلو- المرّ) اللصيق بسرعة زوال الأشياء، وبالتالي كان يُعتقد أن الأمور التي هي في حالة انحطاط تُظْهِر معنى كبيرا من معاني الميابي.
مما لا شك فيه، لا تتطابق هذه المبادئ مع الأصول التي يقوم عليها الشعر العربيّ ولا الأوربيّ. من هنا أهمية معرفتها والتأمل فيها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram