TOP

جريدة المدى > عام > الشعر والجمهور.. تجربة شخصية

الشعر والجمهور.. تجربة شخصية

نشر في: 23 أغسطس, 2014: 09:01 م

العلاقة بين الشعر والجمهور ملتبسة، منذ الأزل رغم كل ما قيل ويقال.من بين التباسات الأمر قصيدة المنصة ومدى اختلافها عن قصيدة الورقة.. أي مشكلة الصلة بين الشاعر وهو يلقي شعره أمام جمهور، كبير أو صغير، والصلة بين قصيدة منشورة في مطبوع أو موقع إلكتروني يت

العلاقة بين الشعر والجمهور ملتبسة، منذ الأزل رغم كل ما قيل ويقال.
من بين التباسات الأمر قصيدة المنصة ومدى اختلافها عن قصيدة الورقة.. أي مشكلة الصلة بين الشاعر وهو يلقي شعره أمام جمهور، كبير أو صغير، والصلة بين قصيدة منشورة في مطبوع أو موقع إلكتروني يتداوله قراء مجهولون قد يعرفون الشاعر لكنه لا يعرفهم.
التباس الشعر والقراء يأخذ مستويات عدة من بينها المكان عنصراً لتبادل الشعر والاستجابة، وعنيت بالمكان، هنا، مكان الشاعر: في وطنه أو منفاه.
في سبعينات القرن الماضي، سبعينات بداياتي الشعرية، كانت الاستجابة لقصيدتي الشابة، وهي تتلمس طريقها نحو الشعر، أفضل، وأكثر حرارة، من الاستجابة لها، بعد عقود من التعلم والتدريب والمكابدة، في المنفى!
ما الذي تغير؟ ..المكان؟ .. الزمان؟.. الشاعر؟ .. القارئ؟
نعم، الكل تغيّر.
شاع مصطلح (قصيدة المنبر) كثيراً في ثقافتنا العربية وهو مصطلح غريب لم يقل به أحد في الثقافة الغربية.
أعرف عدداً من الشعراء، من بينهم أصدقاء، يحسنون اختيار قصائدهم في الأمسية الشعرية أو المهرجان الشعري بغية استجداء التصفيق، وهم يقرّون بهذا ولا يخجلون منه، كأن تصفيق الجمهور هو هدف الشاعر الأسمى.
هل يكتب صديقي الشاعر قصيدتين: قصيدة للقراءة على الورق وثانية صوتية للمنصة؟
إذا كان الأمر كذلك فهذا شكل من الفصام الفني. كيف يخرج الشاعر من سياق إلى سواه؟
قيل أيضاً: قراءة قصيدة منشورة في مطبوع أو موقع إلكتروني تتيح لقارئها فضاء كافياً للتأمل. القارئ يستعيد النص كلمة كلمة وفاصلة فاصلة على هواه، بينما المستمع لقصيدة المنصة (المنبر) أسير توجيهات الشاعر وحيله وبراعته في بلوغ تلك الدرجة التي تشبه درجة اتقاد المادة، ما أن يبلغها حتى تلتهب القاعة بالتصفيق.
هل عثر جمهور الشعر العربي على ضالته بمناداة شاعر المنصة: أعدْ؟
"أعدْ!" صوت آخر غير موجود في ثقافة القصيدة الغربية.
عندما أقول "القصيدة الغربية" فأنا أعني ما أقول.. ببساطة لأنني لم أحضر أمسية شعرية لشاعر صيني يلقي شعره على جمهور صيني ولا هندي ولا إيراني، بينما حضرت الكثير من القراءات الشعرية في بريطانيا لشعراء يلقون قصائدهم باللغة الإنكليزية حتى لو لم يكونوا إنكليزا أو حتى بريطانيين على أسماع جمهور بريطاني أو يجيد اللغة الإنكليزية.
ثمة شعراء عرب كبار تمكنوا من خوض اللعبة الجماهيرية بنجاح ساحق لم يكن بينهم (إلقائياً) غير عراقي واحد، حسب، هو شيخنا الراحل الحي محمد مهدي الجواهري، وهذا يطرح سؤالاً جديداً: كيف يشفى الشاعر من فصامه الفني ولا يستعير قناعاً مناسباً للمنبر ولا يتخلى عن شعريته وهو يمسك بخيط الحرير غير المرئي بين الشعر والجمهور؟
الجواهري، سعيد عقل، محمود درويش، أدونيس، الفيتوري، أمثلة بارزة.
ليس بالمنبرية، وحدها، يحيا الشعر.
*****
تعلمت في جولتي السويدية، أخيراً، درساً جديداً بصدد العلاقة بين الشعر والجمهور.
قرأت قصائدي في ثلاث مدن سويدية حيث يقيم عراقيون بينهم أصدقاء ورفاق كفاح وزملاء في المهنتين الشاقتين: الشعر والمنفى.
الجمهور العراقي في السويد جمع من اللاجئين السياسيين.
المشتغلون في الثقافة والأدب والفن هناك أقليّة، أقلية يتباينون في مستوى الدرس والبحث والإبداع. الأكثرية هم محصلة شع: أكاديميون ومناضلون سياسيون وناشطو مجتمع مدني من الجنسين، متقاعدون وموظفون وعمال وربات بيوت.. ليست لدي إحصائية دقيقة طبعاً.
في مهرجان الأنصار الديمقراطيين – ستوكهولم كان الحضور لافتاً من حيث العدد: يقارب الثلاثمئة شخص، وهو عدد لافت في مغترب بارد وبعيد، واللافت أكثر – كما كتبت في عمودي الأسبوعي بالمدى – هو خفوت النبرة السياسية وعلو الهمسة الجمالية.
ثمة طقس يحفّز على الإبداع، وإلقاء الشعر جزء من هذا الإبداع.
تكرر هذا الطقس في مدينتين سويديتين أخريين هما يوتوبوري ومالمو، والجمهور فيهما لا يختلف كثيراً عن جمهور ستوكهولم إلا في عدد الحضور.
كنت ألقى قصائدي وأنا أرى إلى الوجوه قبالتي بل في عمق العيون. كنت، سابقاً، ألقى قصائدي وسط قاعة مظلمة حيث يختزل بصري إلى بصيرة داخلية لا ترى غير نصي، لكنني في تجربتي الأخيرة كنت أرى إلى كلماتي وقد عمقت صلتي بمستمعيّ.. حتى إنني أحدق في عيونهم.. أي استرخاء شعري وأية قصيدة مسترخية وهي تكتشف استجابة الحاضرين صمتاً جميلاً أعلى صوتاً من تصفيق جمهور في ملعب رياضي.
صمت الإبرة الملقاة على الرمل.
القضية هي ليس ما يريده الجمهور من الشاعر بل ما يريده الشاعر من الجمهور.. صدق القصيدة هو مجدها الوحيد.. سلطتها الوحيدة عندما يتوفر الخطاب الشعري على طاقة خاصة تتولد من تفاعل الألم مع الأمل.
ثمة حدس إنساني لدى المستمعين يميز الشاعر الصادق من الشاعر الكاذب.
ثمة حساسية إنسانية تؤهل الحاضرين لمعرفة مقول الشعر والتمتع به من دون أن يكونوا خبراء في الشعر وأساتذة في النقد الأدبي ومحترفي تقنية شعرية.
قال العمال البسطاء لبابلو نيرودا: نحن لا نفهم في الشعر، يا رفيق، لكننا نعرف أنك تتحدث عنا.
الاحتفاء الكبير استمر خارج القاعة أيضاً.. كانت رفقة كريمة من أصدقاء أعرفهم أو لا أعرفهم.. حتى جاز لي القول: تعبت من المحبة.
كلمة أخيرة:
افتقدت هناك أصدقاء شعراء وكتابا وفنانين كثيرين كنت آمل لقاءهم أو مشاركتهم القصيدة والأغنية والكأس والذكرى.. لكني أتفهم جفوتهم في مثل هذه المناسبات ولهم العذر.. إنه التباس من نوع آخر: علاقة المثقف بالمنظمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram