حين خيمت ظُلمة الهزيمة عام 1967 على أرجاء العالم العربي، التمعت في سماء فلسطين ثلاثة نجوم.. كانوا ثلاثة شعراء حملوا صوت فلسطين عالياً، للتعبير عن فكر المقاومة والصمود، جمعهم الحزب الشيوعي ولقب شعراء المقاومة، ظل توفيق زيّاد في فلسطين منتمياً ومناضلاً
حين خيمت ظُلمة الهزيمة عام 1967 على أرجاء العالم العربي، التمعت في سماء فلسطين ثلاثة نجوم.. كانوا ثلاثة شعراء حملوا صوت فلسطين عالياً، للتعبير عن فكر المقاومة والصمود، جمعهم الحزب الشيوعي ولقب شعراء المقاومة، ظل توفيق زيّاد في فلسطين منتمياً ومناضلاً مع الحزب الشيوعي، وقضى نحبه قبل رفيقيه عام ١٩٩٤ في حادث سير على طريق القدس، وانتقل محمود درويش من فلسطين إلى الأفق العالمي ليكون شاعر القضيّة ونجمها، لكن جسده الذي خانه قلبه عاد في تابوت عام ٢٠٠٨، ليدفن قريباً من قائد الثورة ياسر عرفات في رام الله، واليوم ينكسر الضلع الثالث، برحيل صاحب "نشيد الحجر" و"يكون أن يأتي طائر الرعد" و" لا أستأذن أحداً" يرحل دون استئذان، منتصب القامة، بعد كفاح مع السرطان القاتل، شبيه بكفاحه ضد سرطان الاحتلال، وبعد نشر سيرته بأسلوب ساخر، تحت عنوان "إنها مجرد منفضه".
رحل الشاعر الذي شكل الثالوث الشهير في شعر المقاومة الفلسطينية مع زيّاد ودرويش، ولعل علاقته الشديدة الخصوصية والتعقيد مع درويش، جعلته بطريقة ما الطرف الأقل شهرةً ونجومية، وفي الحقيقة الأقل شعرية أيضاً، وإن كان خارج المقارنة شاعراً بارزاً ومتمكناً، كان ضحية هذه الثنائية، وهويته الفلسطينية، وانتمائه المحصور بشعر المقاومة، الذي يغيب عن ساحة النقد إلا في نطاق محصور بالنضال والمقاومة، أدى ذلك إلى شكل من التجاهل النقدي، غيّب التقدير الحقيقي لهذا الشاعر الذي تحول إلى اسم ورمز، رغم حجب جزء من شعره ونثره وراء وهج الاسم الأكبر "فلسطين".
ولد في مدينة الزرقاء الأردنية حيث كان والده ضابطاً يعمل مع الجيش الانجليزي، وهو من نسل القرامطة، حيث أنَّ جدَّه الأول خير محمد الحسين كانَ فارساً مِن أسياد القرامطة، قَدِمَ مِن شِبه الجزيرة العربية لمقاتلة الروم، واستقرَّ به المطاف على سفح جبل حيدر في فلسطين على مشارف ما كان مستوطنة للروم، وما زال الموقع الذي نزل فيه معروفاً إلى اليوم باسم "خلَّة خير"، على سفح جبل حيدر الجنوبي، انتسب للحزب الشيوعي في بواكير شبابه، واعتقل وفُرضت عليه الإقامة الجبرية أكثر من مرة، وترأس عدداً من صحف الداخل الفلسطيني، حظي مبكراً بمكانته الأدبية واسمه الشعري لدى الجمهور الفلسطيني والعربي.
ولا يزال من عاصروا تلك الفترة التي امتزج فيها الشعر بالمقاومة الفلسطينية، يتذكرون كيف شاعت قصائد درويش والقاسم وزيّاد، وسكنت وجدان الجماهير العربية، وتحولت إلى أناشيد على ألسنتهم، ومنها للشعراء الثلاثة ثلاث قصائد شكلت جوهر شعر المقاومة في حقبة ما بعد هزيمة حزيران، «سجل أنا عربي» لدرويش، و«هنا باقون» لزيّاد، بينما كان نصيب القاسم قصيدته «خطاب في سوق البطالة» التي اشتهرت أكثر باسم «يا عدوّ الشمس»، وفيها يقول
ربما تسلبني آخر شبر من ترابي
ربما تُطعم للسجن شبابي
ربما تسطو على ميراث جدي
من أثاثٍ وأوانٍ وخوابِي
ربما تحرق أشعاري وكتبي
ربما تطعم لحمي للكلابِ
ربما تبقى على قريتنا كابوس رعبٍ
يا عدوّ الشمس لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم
اشتُهر القاسم كشاعر ومناضل، ولكنه كتب نثراً مرموقاً في مقالاته وسردياته، كان صاحب رواية مدهشة ومؤثرة مثل "الصورة الأخيرة في الألبوم"، وإلى جانب سيرته الإبداعية، ترأس الاتحاد العام للكتاب العرب في فلسطين منذ تأسيسه، وكان في السنوات الأخيرة رئيس تحرير فصلية "إضاءات"، ورئيس التحرير الفخري لصحيفة "كل العرب" التي تصدر في مدينة الناصرة.
للقاسم قصائد حظيت بشهرة في عموم العالم العربي ومنها (منتصب القامة أمشي) التي غناها الفنان اللبناني مرسيل خليفة وتحولت إلى ما يشبه النشيد الشعبي الفلسطيني حيث يقول فيها:
منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي
قلبي قمر أحمر
قلبي بستان فيه العوسج والريحان
شفتاي سماء تمطر ناراً حيناً
حُبّاً أحيان.
في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي
زاوج القاسم في كثير من قصائده بين جماليات الشعر ودور الشاعر المحرض، ومنها قصيدة (بيان عن واقع الحال مع الغزاة الذين لا يقرأون) ويقول في بعض سطورها
يا أيها الآتون من عذابكم
لا.. لا تعدو العشرة
وغازلوا قاذفة
وعاشروا مدمرة
خذوا دمي حبرا لكم
ودبجوا قصائد المديح في المذابح المظفرة
وسمموا السنابل
وهدموا المنازل
وأطبقوا النار على فراشة السلام
وكسروا العظام
لا بأس أن تصير مزهرية عظامنا المكسرة
حصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في عدّة مؤسسات فنالَ جائزة "غار الشعر" من إسبانيا، وعلى جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي، وحصلَ على جائزة البابطين، وحصل مرّتين على "وسام القدس للثقافة" من الرئيس الراحل ياسر عرفات، وحصل على جائزة نجيب محفوظ من مصر وجائزة "السلام" من واحة السلام، وجائزة الشعرالفلسطينية.
كان القاسم بعد رحيل زيّاد يشكل مع درويش جناحي طائر ووصفا بأنهما شطرا البرتقالة، تآلفا في السياسة والشعر والحياة، ثم افترقا، لكنهما بقيا يتجاذبان ، ويتعاتبان، يقتربان حينا ويبتعدان في حين وفي منتصف الثمانينات تبودلت بينهما رسائل نشرت من بعد في كتاب (الرسائل) الذي يعد من عيون النثر العربي، في واحدة من تلك الرسائل خاطبه درويش في قصيدة يقول في بعضها
أما زلت تؤمن أن القصائد أقوى من الطائرات؟
إذن كيف لم يستطع امرؤ القيس فينا مواجهة المذبحة؟
سؤالي غلط
لأن جروحي صحيحة.. ونطقي صحيح.. وحبري صحيح.. وروحي فضيحة
أما كان من حقنا أن نكرس للخيل بعض القصائد قبل انتحار القريحة؟
سؤالي غلط.. لأني نمط.. وبعد دقائق أشرب نخبي ونخبك من أجل عام سعيد جديد.
صدر له أكثر من 60 كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة، لم يكن يتقبل وصفه شاعر المقاومة بغير تحفظ، فحسه الشعري والنقدي يقول إن ذلك ربما تضمن اتهاما لقصائده بالمباشرة، وهو اتهام ليس بعيداً عن الواقع، وهو لم يكن حريصا على نفي هذه "التهمة"، لكنه ظل مؤمنا أن المباشرة لا تعني بالضرورة السقوط في "العادية"، فهناك المباشرة السهلة الممتنعة، ويؤشر أن شعراء عالميين كبار ، كأراغون وناظم حكمت، اعتمدا المباشرة في أشعارهما، دون أن تفقد تلك الأشعار الدهشة الشعرية.
تعددت آراء النقاد في شعره حتى أن الشاعرة والباحثة سلمى الخضراء الجيوسي اعتبرته الشاعر العربي الوحيد الذي تظهر في أشعاره ملامح ما بعد الحداثة، وهو يقول في ذلك "هناك فرق بين استهلاك الحداثة وبين الاستحداث، والحداثة تنبع من الداخل وهي ابنة العصر، في هذا الصدد أزعم أن الأغلبية الساحقة من أفراد أمتي ما زالت تراوح في حدود القرن الرابع عشر ووعيه وأخلاقياته وأيضا هواجسه، ويسأل كيف تكون كاتبا ما بعد حداثي في مجتمع يراوح في ثقافة الإقطاع" ؟
رحل القاسم حاملا معه مجموعة من الألقاب أسبغها عليه نقاد عرب مختلفون "شاعر المقاومة الفلسطينية" وهو "شاعر القومية العربية" وكذلك "شاعر الغضب الثوري"، وهو "شاعر الملاحم"، و"شاعر المواقف الدرامية" و"شاعر الصراع".
حين رحل درويش قبل ست سنوات، رثاه سميح في قصيدة اختار لها عنوان "خذني معك" يطغى عليها طابع العتاب، وكان للعتاب مكان في علاقة الشاعرين على مدى سنوات الافتراق، لكنه في هذه القصيدة عاتبه، للمرة الأخيرة، على رحيل أكثر إيلاما من أي رحيل سبق
تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحمَّلتني وزرَ موتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثرتَ صهوةَ مَوتكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني ملاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟.
لكنه لم يتلق الجواب، وها هو الحصان لم يعد وحيداً، فقد امتطى سميح القاسم صهوته الأبدية، ليلتحق برفيقه الأزلي، وقبل ذلك قال
يا أيها الموتى بلا موت
تعبت من الحياة بلا حياة
وتعبت من صمتي
ومن صوتي
تعبت من الرواية والرواةِ
ومن الجناية والجناة
ومن المحاكم والقضاة
وسئمت تكليس القبور
وسئمت تبذير الجياع
على الأضاحي والنذور.