إذا أردتَ أن تُنتج كتابةً جيدة، عليك أن تنقّح revise (أي تغيّر و تعدل) ما تكتب. و هذا المبدأ تجده أينما كان، كما يقول الكاتب الأميركي كريغ فيهرمان في مقاله هذا. و قد ذكر رَيموند كارفر مرةً أنه كتب 20 أو 30 مسودة لقصةٍ من قصصه. و قالت جويس كارول أوَيت
إذا أردتَ أن تُنتج كتابةً جيدة، عليك أن تنقّح revise (أي تغيّر و تعدل) ما تكتب. و هذا المبدأ تجده أينما كان، كما يقول الكاتب الأميركي كريغ فيهرمان في مقاله هذا. و قد ذكر رَيموند كارفر مرةً أنه كتب 20 أو 30 مسودة لقصةٍ من قصصه. و قالت جويس كارول أوَيتس، المعروفة بوفرة كتابتها، " إنها تنقّح، كلَّ الوقت، كل شيء ".
و من السهل ادعاء أن أعظم المؤلفين هم أعظم المنقحين لأعمالهم. لكن الأمر لم يكن هكذا على الدوام. فحتى قبل قرن تقريباً، كان هناك أدب ينبثق من خلال مخطوطات يدوية مرت بتنقيحات بسيطة على الأغلب. ثم تغير شيءٌ ما.
و تؤكد هناه سوليفان Hannah Sullivan في كتابها ( عمل التنقيح The Work of Revision ) المنشور حديثاً أن التنقيح كما نفهمه هو ابتكار القرن العشرين. فهذه الممارسة لم تصبح حقاً أساسيةً لإبداع كتابة جيدة إلا تحت أيدي كتّاب لامعين حديثين مثل إزرا باوند، و ت. س. إليوت، و فرجينيا وولف. و كان أولئك المؤلفون أول مَن " نقّح علناً، و بانفعال، و في مراحل كثيرة من فترة حياة نصوصهم الأدبية.
فما الذي جعل هؤلاء الكتّاب يضعون إيمانهم في التنقيح باعتباره المفتاح إلى أدب جيد؟ جزئياً، إنها فلسفة الحداثة ــ فكرة أن الرواية أو القصيدة ينبغي أن تتحدى القارئ، تتخاصم مع الموروث، و بتعبير باوند، " تجعله جديداً ". لكن سوليفان، التي تنتمي إلى موجة جديدة من الدارسين الذين يحاولون أن يفهموا الأدب من خلال وقائع إبداعه الطبيعية و التاريخية، تجد أن قيمة التنقيح كانت أيضاً مدفوعة بشيء آخر : الآلة الكاتبة.
و قد يبدو غريباً أن نفكر بأننا ندين للآلة بأسلوب الحداثة الرفيع. لكن كتاب ( عمل التنقيح ) يُظهر لنا أن ما نكتب يهبط إلى مستوى كيف نكتب. فالتنقيح الحريص ليس أوتوماتيكياً أو حتى نافعاً بصورة أوتوماتيكية. و هذا يعني، والتكنولوجيا لدينا تتغير مرة بعد أخرى، أن الأسلوب الأدبي يمكن أن يمر الآن بتحول آخر.
و ما أوصل سوليفان إلى التفكير بالتنقيح هو مصادفتها نصاً لأرنست همنغوَي لم تكن قد رأته من قبل أبداً. فبينما كانت في السنة الأولى من دراستها كطالبة دكتوراه فلسفة، زارت مكتبة جون كينيدي الرئاسية و مجموعة همنغوي فيها. و قد تعجبت من أرشيف المؤلف الشهير هناك، و أثارت انتباهها نسخة الآلة الكاتبة من روايته " الشمس تشرق أيضاً ". فقد أظهرت أن همنغوَي يغيّر كتابه بشكلٍ ملحوظ من نسخة إلى أخرى. و هكذا تلاشت الحوارات الداخلية، و اختفت نقاط كاملة في الحبكة، و لينتهي ذلك إلى الرواية الغامضة المشذَّبة التي أصبحت جزءاً من الصرح الأدبي الأميركي. و تقول سوليفان : " إن أسلوب همنغوَي المعروف لنا جداً لم يكن هو الذي كان في المسودة الأولى. إنه نتاج التنقيح ". و قد ذكَّر ذلك سوليفان بما فعله أيضاً إليوت بقصيدته " الأرض اليباب "، فقررت دراسة التزامهما الشديد بقوة التنقيح. و كان الكثير من الدارسين الأدبيين قد تمعنوا في الطريقة التي اتبعها عدد من المؤلفين في تحرير أعمالهم، و نادراً ما قارنوا نتائج بحثهم بين المؤلفين أو من فترة إلى التي تلتها. و توصلت سوليفان من قيامها بتلك المقارنات إلى تحديد أن الحداثويين Modernists هم أول مَن مارس الشكل المعاصر من التنقيح لدينا. كما أنها تعرفت على الكيفية التي ساهم بها التنقيح في تقنيتهم الأدبية المميزة. و كما تقول " غالباً ما نفترض أن الأسلوب يأتي من لا مكان. لكن الأسلوب ينشأ في التنقيح، و التنقيح ليس شيئاً يفعله الكتّاب طبيعياً ".
و لم يبدأ التنقيح، بالطبع، مع الحداثويين، فقد اشتغل المؤلفون منذ أقدم العصور على نحوٍ مختلف كثيراً عما يعلّموننا فعله اليوم. ففي عام 1637، مثلاً، قام جون ملتون، أكثر الشعراء تشذيباً في تاريخ اللغة الانكليزية ، بأخذ صفحات قليلة و كتب المسودة الأولى لقصيدته الرثائية الشهيرة " ليسيداس ". و يعرف خبراء ملتون أنه عاد و نقحها، طافراً بعض الأبيات و العبارات و مخربشاً بدائلَ لها في الهامش أو أسفل الصفحة. و تنطبق الطريقة نفسها على أعظم كتّابنا، و ربما كان شكسبير أحدهم، و قد يكون هناك في مكانٍ ما صندوق قديم يحتوي على نسخ منقحة جذرياً من مسرحيات شكسبير.
و في القرن الـ 19، جعلت الرومانسية من مقاومة التنقيح فضيلة. و كانوا يعتقدون آنذاك أن أفضل الأدب يتدفق من أفعال إبداعية عضوية و عفوية. و قد كتب لورد بايرون في رسالة " إنني مثل النمر ( في الشعر )، إذا أخطأتُ وثبتي الأولى ــ عدتُ هادراً إلى غابتي. ليست هناك وثبة ثانية. لا يمكنني أن أصحّح ".
لكن شيئاً ما سيتغير قريباً، مع كتّاب مثل همنغوَي و إليوت اللذين يصران ليس على وثبةٍ ثانيةٍ فقط، بل و ثالثة، و رابعة، و خامسة. و تؤكد سوليفان أن هذا التغيير كان جزئياً بدفعة من فلسفة جديدة لما يصنع كتابة جيدة. و كان الحداثيون يرغبون في أن يُنتجوا أدباً طليعياً ــ أدباً كان أقل عفويةً و حماسةً مما كان مُجفلاً و غامضاً. و قد وصف همنغوي في مقابلة مع باريس ريفيو " مبدأ جبل الجليد " لديه في الكتابة قائلاً إن هناك سبعة أثمان منه تحت الماء، و أي شيء تستطيع إزالته فإنه يقوّي جبل جليدك.
و هكذا فإن جزءاً كبيراً من هذا التغيير، كما ترى سوليفان، كان تبدلاً في التكنولوجيا الأدبية. ففي عام 1850، كانت بريطانيا تنتج حوالي 100,000 طن من الورق كل عام؛ و في عام 1903، ازداد ذلك الرقم إلى 800,00 طن كل عام. و بدأ الطبّاعون يستخدمون الآلة، التي هي أسرع خمس مرات من الطباعة باليد و جعلت بروفات الصفحة أسهل من ناحية المشاركة و التصحيح.
و في هذا كله، كانت التكنولوجيا الأكثر أهميةً هي الآلة الكاتبة. فكان معظم الكتّاب الحداثيين، كما هي حال همنغوَي مع روايته (الشمس تشرق أيضاً )، يكتبون باليد ثم يطبعون ما كتبوا بعناء. و كان ذلك يأخذ وقتاً، لكن رؤيتهم لكتابتهم في أشكال مختلفة ــ مكتوبة باليد، و بالآلة الكاتبة، ثم مطبوعةً كبروفة ــ كان يشجعهم على تنقيحها بصورة كفاحية. و لقد كتب و. هـ. أودن قائلاً : " بقدر ما أقرف من الآلة الكاتبة، لا بد أن أُقرّ بأنها عون لي في النقد الذاتي. فنسخة الآلة الكاتبة لاشخصية و شنيعة عند النظر إلى ذلك، و إذا ما طبعتُ قصيدةً رأيتُ في الحال نواقص فاتتني حين قرأتها في المخطوطة ".
هذه التغيرات توحدت لتخلق طريقة شديدة للتنقيح الأدبي. و تضرب سوليفان مثلاً على ذلك بحكاية إزرا باوند و قصيدته " في محطة مترو "، عام 1911، التي جاءت في 30 بيتاً، و ظل يختصرها كل ستة أشهر حتى اكتملت لديه و هي في بيتين فقط. أما جيمس جويس، فلم يكن يستطيع أن يتوقف عن تمديد روايته ( يوليسيس ) حتى أنه أملى إضافاته الأخيرة على طبّاعه بالتلفون. و حين كانت فرجينيا وولف تنقح " الزمن يمر " من روايتها ( المنار )، راحت تخلق مناظير متعددة لتثير قراءها. فكل واحد من أولئك الكتّاب الحداثويين كان يكتب بطريقة مختلفة، لكنهم كانوا موحدين في الإيمان بأن إعادة العمل الأساسية و الحريصة ستؤدي في النهاية إلى إنتاج الأدبٍ الأفضل.
و هكذا فإن تاريخ التنقيح يوضح أن هناك طرقاً كثيرة لإنتاج أدب عظيم. و تأمل سوليفان أن التنقيح سينجز الكثير مستقبلاً، لكن له كلفته أيضاً. و ربما هو مبدِّد أيضاً، و يمكن للتنقيح الزائد أن يؤدي إلى ما هو أسوأ بدلاً من الأفضل، كما تقول.
عن: بوسطن غلوب
جميع التعليقات 2
د. خيرالله سعيد
إن منهـج ( التنقيح وإعادة الكتابة) كان قد أوجده كتّاب العراق في العصر العباسي عندما كانوا يصحّحون مخطوطاتهم مع الورّاقين ، كان ذلك في مطلع القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وقـد أشرنا الى ذلك في الجزء الأول من موسوعتنا ( موسوعة الوراقة والوراقين في ال
د. خيرالله سعيد
بالأمس كتبنا تعليقاعلى الموضوع حول اسبقية الكتّاب العراقين في القرن 3 هـ/ 9 م بأنهم ابتكروا هذا الإسلوب ، ولم تنشروه ؟ ترى أتلك هي الحقيقة المعرفية التي تريدها المدى ؟